هذا كتابٌ عن جماعة نسيت أن الوطن أهم من العشيرة. فقد صدمت جماعة الإخوان المسلمين كل من كانوا يتوسمون فيها خيرًا، وأهدر...
هذا
كتابٌ عن جماعة نسيت أن الوطن أهم من العشيرة.
فقد
صدمت جماعة الإخوان المسلمين كل من كانوا يتوسمون فيها خيرًا، وأهدرت الفرصة تلو الأخرى،
ورسبت في تلك الاختبارات، واكتفت بانغلاقها، والسعي إلى الاستحواذ على المناصب ومواقع
صنع القرار، وتهميش المعارضة وإقصاء الأصوات الغاضبة من خطط التمكين، وكأن مصر غنيمة
لهؤلاء وليست وطنـًا لكل المصريين.
هذا
الولاء العشائري الذي حكمته انتماءات الجماعة وعلاقات النسب والمصاهرة وشبكة المصالح،
أغرق مصر في دوامةٍ لا تنتهي من الأزمات، وأدى إلى فشل ذريع في وقف نزيف دمائنا المتواصل
على قضبان السكك الحديدية وفوق الطرق وتحت أنقاض البنايات، وأمام قصر الرئاسة ومقر
الداخلية.
طوال
عهد الرئيس المعزول محمد مرسي، كنا إزاء أوضاع بلدٍ اختل فيه مقود القيادة، الذي تُمسك
به جماعة تحتاج ثورة داخلية تنقلها إلى العصر الحاضر، وتعيد الضوء إلى عقول ترتضي الظلام،
وتعيش في عصور ما قبل السياسة.
لقد
أظهرت بواكير حُكم الإخوان المسلمين في مصر حالة من التردي والارتباك والتعثر، وإن
يكن مُنظرو الجماعة ومن والاهم ساقوا مبررات قلة الخبرة وإرث العهد السابق ومؤامرات
المعارضة، وحتى الدولة العميقة، للتخفيف من هذا الإخفاق في تجربة الحُكم.
غير
أن هذا التردي لم يتأت في الأساس من قلة الخبرة السياسية في الحُكم، وإنما يعود إلى
ضبابية رؤية جماعة الإخوان المسلمين للممارسة الديمقراطية، وعدم استيعابها لمتغيرات
العصر وحاجاته بمشروع وطني عابر للجماعات والطوائف والفرق والأعراق، وانغلاقها على
مشروعها الذي لم يلامس تطلعات المصريين بعد ثورة 25 يناير، فضلاً عن نكوصها عن تعهداتها
السابقة التي تتعلق بالالتزام بمبدأ الشراكة السياسية والسلم الاجتماعي ومدنية الدولة.
لعل
أخطر مستوى لإخفاق الإخوان المسلمين هو فشلهم في أن يكونوا جزءًا من الزمن؛ من تقدمه
وتطوراته ومن سرعته. وربما جاز القول إن الجماعة وقعت في خطيئة "الاعتصام في الزمان"،
قبل أن تعاند وتكابر وتعتصم لاحقـًا في المكان – رابعة العدوية والنهضة مثالاً- لتصبح
فريسة التشوش الذهني، أو حتى ما يمكن وصفه بـ"التسوس الفكري"، الذي أجهز
على الجماعة، فلم يُبق ولم يذر.
ومن
المرجح أن يكون لهذا الفشل دور في سرعة تهاوي نظامهم واستهلاك حقبتهم، والحال أن خلل
علاقة الإخوان المسلمين بالزمن، تم اختباره على نحو مأساوي منذ ثورة 25 يناير وصولاً
إلى ثورة 30 يونيو. فقد سقطوا في فخ السلطة، وانتهجوا سياسات إقصائية، إن لم تكن إلغائية،
حتى ينفردوا بالمشهد السياسي، إلى أن تعثروا وانهاروا في اختبار الإرادة الشعبية.
والاستقطاب
الأيديولوجي وصفة مجربة للفوضى والفشل.
الأمر
الآخر، هو أن الانضباط التنظيمي في جماعة الإخوان المسلمين، وتفويض قادة الجماعة اتخاذ
القرارات دون مناقشة أو مراجعة، كان سببـًا - في ظل السرية والتكتم اللذين يحيطان بتلك
الجماعة- في ارتكاب أخطاء فادحة واتخاذ مواقف مغلوطة وقرارات متسرعة، أضرت بالأوضاع
السياسية والاقتصادية والاجتماعية لمصر، خاصة بعد تولي الإخوان السلطة.
وحتى
لا تُنسي كثرة الكلام بعضه، نقول إن مبدأ السمع والطاعة، على قاعدة النسخ والمسخ، يمثل
إحدى المشكلات الجوهرية في عقلية الإخوان المسلمين، الذين يربون أعضاء هذا التنظيم
على القولبة وإطاعة الأفكار الرجعية والمفاهيم المغلوطة، ويحجبون عنهم فضيلة التفكير
وإعمال العقل وحرية النقاش البنّاء لإنتاج إطار فكري يمثل تطورًا تحديثيـًا للتراث
المحافظ.
وليس
خافيـًا على أحد وجود سمات خاصة وأنماط تفكير معينة وآليات تعامل محددة لدى الأشخاص
المهيئين والمنضمين للتنظيمات السرية. هذه السمات تحكم علاقات هؤلاء الأفراد وسلوكياتهم
وربما رؤيتهم للآخرين.
كرر
الإخوان على طول الخط نغمة الاحتكام إلى صندوق الانتخابات، مع أن نتائج الصندوق يجب
أن تقترن بمسارات الرضا الشعبي عن الأداء والسياسات، وإلا جازت المراجعة والمحاسبة
من جانب السلطتين التشريعية والقضائية فضلاً عن الرأي العام. وفي غمار انشغالهم بالتمكين
للجماعة، نسي الإخوان المسلمون الذين تورطوا في رقصة الموت التي شهدتها مصر، أنهم بمواقفهم
المرتبكة وممارساتهم الخاطئة، إنما يعملون على تجريد مصر من مقامها، وقيمتها.
لم
تستفد جماعة الإخوان المسلمين من الآلية الديمقراطية التي أوصلتها إلى سدة الحُكم،
من خلال تعزيزها روحـًا وممارسة، بما يشيع أجواء الثقة في العملية الديمقراطية وإمكانية
تداول السلطة سلميـًا. انكفأت الجماعة على نفسها، ودخلت في خصومة مع المجتمع، وأمعنت
في تكتيكات حزبية وضيقة، لا تتفق مع روح الدولة وسياساتها ورحابة أفقها، على صعيد الانفتاح
والمشاركة وتغليب روح الوطنية والدولة على نوازع التحزب والانغلاق والتقولب، الأمر
الذي كان نذيرًا بفشل أي مسعى للانتقال أو التحول الديمقراطي.
تكرر
سيناريو الغضب الشعبي العارم ضد رئيس فاشل، عجز عن إدارة بلدٍ بحجم مصر، وغرق في مستنقع
التحيز للأهل والعشيرة. فإذا كانت ثورة يناير هي المبتدأ فثورة يونيو هي الخبر، بعد
أن نجح المصريون في حشد الصفوف لوقف مغامرة الأخونة والتمكين، التي أنزلت بمصر وأهلها
الكثير من الضرر.
في
الطريق إلى 30 يونيو، أعاد الإخوان المسلمون إنتاج الديكتاتورية ولكن بنكهة مختلفة.
ربما تغيرت الأسماء، لكن الأدوار بقيت محفوظة؛ إذ تصدر المشهد من يحاولون ملء فراغ
اللاعبين القدامى ولعب الأدوار نفسها، سواء من يؤدون دور الحكومة أو من يمثلون أصحاب
المصالح والنفوذ على الأرض. هكذا بدا الإخوان المسلمون كما لو أنهم يسعون إلى استكمال
مسيرة دولة مبارك ولكن برجال المرشد.
تجربة
أخرى تثبت أن كفاءة القيادة تقاس بمقدار استجابتها لمسؤولية التحدي التاريخي الذي تواجهه،
ونيلها رضاء الشعب واتحاده وراء رؤية وطنية جامعة، فإذا أخفقت القيادة في مهمتها، فإن
علينا واجب التقويم والتنبيه إلى هذا التقصير وتلك الغفلة.
لقد
عانينا طويلاً في مصر أسلوب المزايدة، وسلوك المكايدة، ولدد الخصومة، حتى أخذ الوطن
يئن من تلك الممارسات غير المسؤولة، التي تآكلت معها مصداقية مؤسسة الحُكم، كما تآكل
رصيد الثقة المجتمعية. ومع كل أزمة، كانت السلطة تحت حُكم الإخوان تروج لبضاعة المؤامرة
وترتاح لهذا التفسير وتركن إلى هذا التبرير. وشهدنا أفعالاً وقرارات وتصرفات تورث معاني
الحيرة وتثبت مسار الهواجس حول الاستحواذ والتمكين والأخونة.
وما
دار من نزال وصراع فوق عظام المصريين طوال شهور الغمة، جاء في إطار وهم يعشش في دماغ
جماعة الإخوان المسلمين بأن مصر بعد ثورة يناير كعكة ينبغي التهامها قبل أن يلتهمها
باقي الشركاء في هذا الوطن. ومن أجل الفوز بالوليمة أو الغنيمة، ارتمى الإخوان المسلمون
على شواطئ الإسفاف، باستخفافٍ شديد، وجهل بأن هناك بلدًا وشعبـًا بأكمله على المحك.
من
هنا، تعد الحالة المصرية نموذجـًا اجتمعت فيه صعوبة الموقف مع خطورته.
إن
التاريخ تصنعه حقائقه قبل نيات اللاعبين على مسارحه؛ لذا فإن حديث الأفكار الحسنة ليس
كافيـًا ما دام الواقع يجافي ذلك، كما أن السكوت والسكون قد يكونان عنوان الانهيار
وتداعي مشروع بناء وطن أفضل من مختلف النواحي. والصمت عن إخفاق ثورة يناير في تحقيق
أهدافها بسبب سلطان لم يعرف كيف يسوس الحكم، لم يكن واردًا بأي حال.
لذا
هبّ المصريون في الشوارع والميادين، في مختلف محافظات مصر، في احتجاجات 30 يونيو التي
عبَّرت عن رغبة المواطن العادي طرفـًا أساسيـًا في معادلة المستقبل. وبغض النظر عن
الجدل البيزنطي الذي دار حول ما إذا كان ما جرى هو ثورة أم انقلاب، فقد قدمت تلك الملايين
في ميادين مصر دليلاً إضافيـًا على تعطش المصريين للتحول الديمقراطي وفق أسس سليمة
تتجاوز عثرات الحاضر وارتباكاته وخطاياه.
في
30 يونيو، رأينا غالبية المصريين في حالة حراك شعبي رفضوا فيها الاستكانة إلى الانخداع،
وهو كثرة الكلام وقلة العمل، وإثارة الضجة دون شيء يُذكر؛ لم يرض أبناء مصر بأن تتشابه
مآلاتهم مع جملة النهاية الشهيرة لفيلم عاطف الطيب "ضد الحكومة" على لسان
أحمد زكي: "أنا ابن هذه المرحلة والمراحل التي سبقتها، هنت عندما هان كل شيء،
وسقطت كما سقط الجميع في بئر سحيقة من اللامبالاة والإحساس بالعجز وقلة الحيلة، كلنا
فاسدون.. لا أستثني أحدًا حتى بالصمت العاجز، الموافق، قليل الحيلة".
قدم
المصريون الوطن على الفصيل، في تصويب للمسار وتصحيح للمعادلة.
وهذه
هي نقطة البداية، التي يتعين أن ننطلق منها نحو مستقبل أفضل لمصر وأبنائها.
أما
وقد سقط مرسي لأنه لم يحترم شرعيته التعاقدية بعد عام كامل من الحُكم، فإن عقدًا جديدًا
قد تم توقيعه فى الثالث من يوليو في بيان عام تضمن التزامات وتعهدات وخارطة طريق أعلنها
وحضرها وزير الدفاع وشيخ الأزهر وبابا الكنيسة وممثلون لكل من حزب النور وجبهة الإنقاذ
والمرأة والشباب.
على
كل الأطراف بدءًا من هذه اللحظة الفارقة أن تفكر في الطريق إلى بيتٍ للوطن، نؤمن فيه
بحق الاختلاف، ونتوقف فيه عن التكفير والتخوين، وعن تبادل الاتهامات الكاذبة والعبارات
البذيئة على الجدران، وفي وعي الأجيال الأصغر سنـًا.
في
هذه المرحلة من تاريخ مصر، لا مفر من العودة إلى مفهوم التعاقد كأساس للشرعية، ولا
بديل عن المزاوجة بين تأييد المحاسبة القانونية الناجزة للأفراد المتورطين وللكيانات
المتورطة في ممارسة العنف أو التحريض عليه وبين حماية الحقوق والحريات ورفض كل الإجراءات
الاستثنائية التي تعصف بها وتنذر بتعميم العقاب دون دليل.
أتمنى
لكم قراءة مفيدة وممتعة في آنٍ معـًا.
من مقدمة كتاب "زمن
العائلة: صفقات المال والإخوان والسلطة"، دار ميريت،
القاهرة، 2013
تجدونه في:
القاهرة:
ميريت
الشروق
ديوان
ألف
ليلى
عمر
تنمية
الجمل
انت مصدق الكلام االلي انت ناشره ده ؟
ReplyDelete