القوانين كالأفراد: سُمعة! وكم من قوانين دخلت دائرة الشبهات بسبب عوار في المضمون أو سوء في التطبيق. غير أن الأسوأ من...
القوانين كالأفراد: سُمعة!
وكم من قوانين دخلت دائرة الشبهات بسبب عوار في المضمون
أو سوء في التطبيق.
غير أن الأسوأ من هذا وذاك هو غياب القانون أو تغييبه،
خاصة إذا كانت الحاجة إليه أشد من أي وقتٍ مضى.
وكتابنا هذا ينطلق من حقيقة أن الصلاحيات المطلقة مفسدة
مطلقة، وغياب المساءلة تربة مثالية للفساد والاستبداد.
وسطور هذا الكتاب تطالب بمحاكمة كل رئيس أو وزير أو
مسؤول أفسد أو ارتكب جرائم الفساد السياسي المنصوص عليها في القوانين، أو خالف
الأحكام الأساسية للدستور وتورط في استغلال النفوذ والمخالفة العمدية للقوانين،
وعمل على التأثير في القضاة أو التأثير في إجراءات الانتخاب أو الاستفتاء بقصد
التأثير في نتيجة أي منهما، فضلاً عن الجرائم المنصوص عليها في قانون محاكمة
الوزراء.
ونعني بذلك محاكمة أمام قضاء محصَّن من جميع الضغوط
الخارجية والتدخلات السياسية، حتى تتحقق العدالة اللازمة ونطمئن
إلى شفافية المحاسبة ونزاهة الحكم بما يصب في مصلحة استقرار الدولة وأمن المجتمع.
لقد مر على مصر زمنٌ شهد هيمنة واضحة للسلطة التنفيذية ورموزها على
الدولة والمجتمع، على نحوٍ لم يعد يتلاءم مع متطلبات الحاضر أو رؤى المستقبل، كما
أنه انطوى على ما يعتبره البعض مكاسب اجتماعية واقتصادية لمصلحة فئةٍ بعينها، مع
إحاطة تلك الامتيازات بسياجٍ من الحماية، يحول دون المحاسبة والمساءلة، أو في أضعف
الأحوال يسكت عنها.
إن ما شهدته مصر على مدى عقودٍ طويلة من حالة عجز وتردد وخيبة في إدارة الدولة
يعود في أحد أسبابه إلى غياب المحاسبة وانتشار الفوضى والخوف من أصحاب
النفوذ، فضلاً عن ميل الرجال المنوط بهم تحقيق العدالة
مع هوى السلطة والسلطان. لم تكن حالة الاضطراب القانوني السمة الوحيدة المخيبة
للآمال، فقد تعالت أصواتٌ تدعو إلى التصالح مع المُدانين من رجال الأعمال، وبعضهم
كانوا في مواقع المسؤولية ومن أهل الحظوة والوزارة، الأمر الذي قد يفتح ثغرة في
جدار العدالة الناجزة والقصاص من مرتكبي الجرائم والفاسدين، لا لشيء سوى أنهم
ارتضوا إعادة بعض ما سرقوا ونهبوا واستحلوا من أموال وأراضٍ وممتلكات.
ولعل ما زاد صورة الدولة المصرية قتامة وتشويشـًا، تلك القوانين البالية
أو الغائبة، والتشوهات الدستورية، والإجراءات العقيمة التي أعاقت محاسبة كبار لصوص النظام من أهل
الحظوة والسطوة والنفوذ، وبينهم وزراء بل ورؤساء حكومات، ومنحتهم مسربـًا آمنـًا للخروج بعد زمن من إساءة
استخدام موقعهم العام، وسط خضوع العامة لقانون الواقع وارتضائهم
السكوت عن إهدار القانون وإسقاط معنى الدولة.
قطع الفسيفساء تلك، شكلت كلها معـًا مشهدًا قبيحـًا لا يليق بأمةٍ
عريقة وحضارة ارتبطت في التاريخ الإنساني بالمعرفة والمنجزات المدهشة.
لا أود أن أبكي على اللبن المسكوب، لكن أبدأ بما يفتح الطريق نحو
المستقبل الواعد والأمل المراد لبلادنا، فأقول إن الوقت لم يفت بعد لتطبيق مبدأ المحاسبة، وأن نهتم بالإعداد الجيد من دون عجلة أو عجالة، للخطط والقرارات والتشريعات
التي تصون الحقوق وترفع المظالم وتضع الأسس الراسخة لدولة مصرية حديثة.
وفي تقديرنا أنه يمكن تفعيل قانون محاكمة رئيس الجمهورية
رقم 247 لسنة 1956، وقانون محاكمة الوزراء رقم 79 لسنة 1958؛ لأنهما جاءا خاليين
من أي نص باختصاص المحكمة الخاصة التي ينص عليها هذين القانونين بأنها تنفرد دون
غيرها بالاختصاص ولائيـًا بنظر الجرائم التي يرتكبها المحالون إلى المحكمة. لذلك فإن
محاكمة كل هؤلاء عما يقع منهم من جرائم تختص بها أصلاً المحاكم العادية
"الجنح والجنايات"، بحسبانها صاحبة الولاية العامة، أما المحكمة الخاصة
التي نصت عليها هذه القوانين فإنها تشاركها في اختصاصها من دون أن تسلبها إياه.
هكذا تكون المحاكم العادية جاهزة ومختصة بنظر هذه الجرائم والنيابة تستطيع تحريك
الدعوى العمومية فيها، وتعيد تحقيقها، ومن حق كل صاحب مصلحة أو مضرور من هذه
الجرائم أن يتقدم ببلاغ إلى النائب العام، الذي يبادر إلى تحقيقها، ويتم التصرف في
التحقيق حسبما يتضح له بعد نهاية التحقيق.
إن العدوان على المال العام بغية تحقيق مصالح خاصة، أمرٌ
لا يمكن التغاضي عنه بأي شكل من الأشكال، ويتعين أن تكون متابعة هذه القضايا حسب
المعايير التي ينص عليها القانون المطبق على الجميع بمساواة كاملة ومن دون ضغوط
سياسية أو غيرها؛ لأن تحقيق العدالة من أسمى وأهم الأهداف التي يتطلع إليها أي
شعبٍ من الشعوب.
ربما يُكتب في التاريخ أن أول برلمان في مصر بعد ثورة
يناير لم يكن بالضرورة يشبهها أو يمثلها، ولكن من المأمول أن يستجيب ممثلو الشعب
في برلمان 2013 إلى مطلب الشعب ويصدروا قوانين لتنظيم محاكمات ناجزة وتوقيع القصاص
العادل بحق الجناة من المسؤولين والمتنفذين سواء أكانوا في مواقع وزارية أو خرجوا
من الوزارة، فالجرائم لا تسقط بالتقادم، وهدم المبنى الآيل إلى
الانهيار حقٌّ مشروع.
ولا ننسى هنا أن الملمح الرئيسي لأولى مراحل ثورة 25
يناير، تمثل في فساد النظام السياسي، فضلاً عن فساد أجهزة الحكم والإدارة بحيث
تغيب مفاهيم الولاء للدولة وابتغاء الصالح العام، الأمر الذي يُعد إخلالاً جسيمـًا
بواجبات المنصب السياسي الوظيفية.
ويمكن القول
إن جزءًا كبيرًا من الارتباك والصراع الدائرين في الساحة السياسية، مرده تجاهل
حقيقة أن مصر بعد ثورة 25 يناير، في حاجة إلى سن تشريعات وإصدار قوانين واستحداث
آليات تضمن نزاهة الحكم وسلامة العقد الاجتماعي من شوائب الفساد والاحتكار
والاحتقار.
ولعل من أهم
الأفكار التي من المهم هضمها والتمعن فيها في هذه المرحلة الجديدة هو ترسيخ
المفاهيم والمواقف بناء على المعاني الصحيحة والشفافية في تحديد الحقوق والواجبات
والمسؤوليات؛ لأن النهايات
لا تصح إلا بصحة البدايات.
إننا جميعـًا في انتظار تلك
"اللحظة الدستورية" التي تجعل ثورة 25 يناير حاضرة في نصوص دستور توافقي
يجعل المواطن آمنـًا مطمئنـًا على محاسبة الرئيس والوزراء ومساءلتهم بكل شفافية
وحزم استنادًا إلى وثيقة وطنية تضم مبادئ وقواعد وآليات يتم العمل بها ومراقبة
تنفيذها. فإن لم تطبق القوانين على من هم في سدة الحكم فلا قيمة لها بين
المحكومين، وإن لم يحترمها الحاكم لن يحترمها المحكوم.
وإذا كنا نتفق مع صحة الرأي القائل
بأنه في أيام الثورات يختلط القانون بالسياسة، فإن علينا أن نستذكر بعض الدروس
المستفادة من وقائع العامين الأولين لثورة يناير. إذ إنه بعد أن هوى جبل الكبر والتجبر والاستبداد، وانقضت سنوات
تصعيد مبارك الابن وتيبس مبارك الأب، تقاطر الوزراء بعد ثورة يناير على مكتب
النائب العام لسؤالهم عما هو مُوجهٌ إليهم من تهم متنوعة تستوجب في حالة ثبوتها
توقيع عقوبات جنائية عليهم، وأحيل عدد منهم إلى المحاكمة. غير أن هذا لم يكن
كافيـًا ولا شافيـًا، وربما كان كاشفـًا لمدى حاجتنا إلى قوانين وتشريعات تجعل
المحاسبة والمساءلة واضحة المعالم ومحددة العقوبات، حتى يطمئن المواطن ويستقر
الوطن في ظل عدالةٍ يقظة وإجراءات فعالة.
إن الثورة
التي بلا وعي أو في ظل ثقافةٍ تخاصم العصر، لا تلبث أن تصير فورة. ولذا فإن تنفيذ
أهداف الثورة يكون بسن التشريعات وليس بإصدار البيانات، ومثل تلك القوانين
المرتقبة ضرورةٌ لا غنى عنها لمحاسبة المقصرين والفاسدين ومحاربة الكسب غير
المشروع. وهي أيضـًا قوانين مهمة لتحديد مسارات التحول الديمقراطي، واستعادة
الأوضاع الطبيعية للبلاد، وإعداد البنية الأساسية لنظام ديمقراطي جديد، وتجنب وضع
القوانين الموجودة والإجراءات المطلوبة على أرفف الزمن، أو في سلة المهملات التي
طالما جمعتْ نثار عقودٍ طويلة مضت.
ومن المهم في
هذا السياق، إعمال العقل وتطبيق العدل، إذ ليس مقبولاً أن يرفض غالبية المصريين
محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، ثم نجد هؤلاء المتحدثين أنفسهم يطالبون
بمحاكمة قيادات الدولة في عهد مبارك أمام محاكم ثورية استثنائية وفورية.
"الشعب
يريد إسقاط النظام".
هكذا هتفت
الحناجر، بعد أن تفجرت في أوصال الوطن
طاقة هائلة،
واتفقت القوى الوطنية على أن النظام يقف حجر عثرة في وجه أي إصلاح أو تغيير.
وتكاتفت هذه القوى الشعبية والثورية المتباينة الأهداف والرؤى، حتى أزيح
مجسم البلادة السياسية عن الحكم، ونجحت الثورة ضد فساد الحكم والذمم والنهب، وكل
عمليات الإقصاء والإخصاء وتدمير البنية التحتية، وتفكيك الوعي المصري، والتدني
الإنساني والحضاري وعسكرة الدولة، في ظل نظام قضائي
وقانوني مهيأ بطبيعته لاستهداف واصطياد من يفتقد الحصافة أو الحصانة.
وسرى في عروق
المصريين أملٌ ببدايةٍ جديدة تعيد الأمور إلى نصابها، مما يسمح بأن تضع حرب القلة
المحتكرة ضد الشعب أوزارها، وتخمد شهوة المرابين وآكلي السحت ومستبيحي المال
العام، ممن يتولون أرفع المناصب الرسمية، خاصة في السلطة التنفيذية.
يقول المؤرخ
الروماني تاسيتوس إن "اليوم الأول الذي يلي موت الإمبراطور الشرير هو أفضل
يوم.. وبعده ستأتي الأيام السيئة".
مقولة أثبت
صحتها مسار الأحداث بعد الثورة، إذ لمست الغالبية عجزًا تشوبه شبهة التقاعس عن
تفكيك الدولة القمعية التي سادت في حكم مبارك، وكأنما رأس النظام سقط لكن أذنابه بقيت
متشبثة بمواقعها. ولم يخف عن ذهن كثيرين أن شرعية النظام تحاول إزاحة شرعية
الثورة، مستغلة في ذلك نقص المعرفة وغياب البوصلة وانقسام الصف الوطني.
وهكذا شهدنا
عملية إلهاءٍ مريبة، وجرى إغراق مصر في دوامة من الحسابات الخاطئة والإجراءات والمحاكمات
الهزيلة التي لم تُفقِد الناس الثقة في الحاضر فحسب بل أفقدتهم الثقة في المستقبل
المنظور، وأعادتهم إلى مربع اللامبالاة الأول. وجرى سحق الثورة الشعبية بانقلاب
بطيء، في ظل قبضة جنرالات المجلس العسكري على المشهد السياسي. ورأينا كيف أن
الدولة العميقة في مصر، ممثلة في المجلس العسكري والمدعوم من جماعات المصالح
المرتبطة بالنظام السابق في مجال الأعمال والإعلام، ظلت متغلغلة في مختلف مجالات
الحياة ونافذة إلى العمل التنفيذي وحاضرة كل منحنى، بهدف تقويض التحول الديمقراطي. ولمسنا كيف
جرى تبديل الوجوه داخل أجهزة الدولة من دون تغيير قواعد العمل بداخلها، لتبقى
مظاهر التردي في الحياة المصرية قائمة، وآليات الفساد والبيروقراطية منتظمة.
وما بين هذا
وذاك، وجدنا الشارع المصري منهكـًا ومنهمكـًا في معمعة أحداث واشتباكات وتحالفات
ومفاجآتٍ غرق فيها حتى شحمتيّ أذنيه.
وسرعان ما
أخذت مصر تغلي من الداخل، وأصبح غياب الثقة هو الثابت الوحيد في معادلة الثورة.
ولعل أبرز ما أصاب كثيرين بالإحباط وخيبة الأمل هو أن معظم المطالب التي طرحها
الشارع المصري بعد الثورة تم رفضها - إما بدرجةٍ من الإهمال أو بدرجة من التأخير
والتباطؤ في اتخاذ قرارٍ بشأنها- مِن إصدار قانون للعزل السياسي، وتعديل الأجور
تحقيقـًا للعدالة الاجتماعية، وصياغة الدستور قبل إجراء أي انتخابات، وعزل
المسؤولين الذين يمسكون مفاصل الدولة الذين عيَّنهم مبارك ويدينون له بالولاء،
والذين ساهموا في سياساته وممارساته من تعذيب وتنكيل وتمهيد للتوريث.
واستقر في
يقين المجتمع أن النظام السابق زرع ألغامـًا في كل مؤسسة وهيئة من هيئات الدولة،
بما يستنزف طاقات كل من يحاول التصدي للفساد ورموزه وفضح كبار المسؤولين
والمتنفذين في عهد مبارك ممن أقاموا شبكات مصالح تحمي بعضها بعضـًا.
ووسط حالةٍ
من التشنج والاحتقان المجتمعي، أخذنا نشهد غضبـًا متراكمـًا ينفجر في كل اتجاه
مقترنـًا بالقيم البائسة التي رسَّخها عصر مبارك، وفي مقدمتها الكراهية والطمع
والاستئثار والتعصب، وسط هالة من الغموض حول المستقبل.
وما إلباس
المسيء لباس الإحسان سوى أحد أركان دولة الفوضى.
يقول
الفيلسوف الفرنسي جاك بيرك: "مصر لا تسقط أبدًا وإن كانت أحيانـًا تخسر
كثيرًا". ونحن نرى أن تلك الكلمات تعبر عن واقع الحال كما تشير إلى عصور
وعهود تعاقبت على مصر، حتى زالت، وبقيت مصر على حالها، وإن أصابها التعب وأمراض
الشيخوخة ونال منها الفساد الكثير.
ونحن في
لحظةٍ فارقة، ليس بيننا وبين الإصلاح الحقيقي فيها إلا أن نؤمن بأننا قادرون على
إنجازه.
لقد حان
الوقت كي نشمر عن سواعدنا لنزيح أعوان البؤس وتلاميذ الفساد، ونزيل مساحاتٍ عفنة
عطنة، صنعها وزراء ومسؤولون وأصحاب مال مشبوه ونفوذ غير شرعي.
وعلينا أن
نهيئ أنفسنا لمعركة طويلة، شرسة وضارية، مع شبكات الفساد وحُماته الكبار في كل
مؤسسات الدولة، وأن تكون لدينا جسارة المواجهة.
والمحاسبة والمساءلة هما أول الطريق.
من مقدمة كتاب "محاكمة الرئيس: البحث عن القانون الغائب"، دار اكتب للنشر، القاهرة، 2013
تجدونه في: مكتبات الشروق،
وديوان، وليلى، والبلد، والكتب خان - مصر
ردود