كان مصرع أحمد حسنين باشا حادثا غامضاً إن لم يكن مريباً وأثيرت شكوكٌ حول ما إذا كان حادث التصادم بين سيارته وشاحنة تابعة للقوات البريطانية مد...
كان مصرع أحمد حسنين باشا حادثا غامضاً إن لم يكن مريباً
وأثيرت شكوكٌ حول ما إذا كان حادث التصادم بين سيارته وشاحنة تابعة للقوات البريطانية مدبراً
لنعد إلى تلك الأيام لنستقريء أحداثها المثيرة
في مطلع فبراير شباط عام 1946 كانت الوزارة البريطانية يومئٍذ من حزب العمال بزعامة كليمنت أتلي، وكان وزير الخارجية إرنست بيفن
وهكذا برَّ حسنين بوعده أو بقسمه وثأر لنفسه وللملك من مايلز لامبسون
غير أن حسنين لقي مصرعه بعذ ذلك بأسبوعين اثنين. وبدا موته مفاجأة مثيرة كما كانت حياته سلسلة من المفاجآت التي تحبس الأنفاس
وكان أمضى سهرة يوم الأحد 17 فبراير 1946 في مسكن مع بعض الأصدقاء ومنهم أم كلثوم، التي غنت لهم "سلوا قلبي" كلمات أمير الشعراء أحمد شوقي، وتلحين رياض السنباطي. وحمل حسنين مقعداً صغيراً جلس فيه بين يدي أم كلثوم، وكان ينصت بكل جوارحه إلى تلك الأغنية المكتوبة في مدح الرسول الكريم
وامتدت السهرة حتى مطلع فجر يوم الاثنين
وفي يوم الثلاثاء 19 فبراير شباط كان حسنين مدعواً لتناول طعام الغداء عند أسرة صديقه الظاهر حسن المحامي في المطرية.. ولكن تراكم الأعمال أبقاه في مكتبه بقصر عابدين إلى الساعة الثالثة بعد الظهر.. ورأى حسنين أنه تأخر كثيراً عن الموعد فاعتذر هاتفياً لصاحب الدعوة، وقيل إنه اقترح تأجيل الدعوة إلى المساء، لتكون عشاء بدلاً من الغداء، لأنه يشعر ببعض التعب ويريد أخذ قسطٍ من الراحة
استقل حسنين سيارته عائداً إلى داره في الدقي، وكانت السماء تمطر. وبينما كانت سيارته تجتاز كوبري قصر النيل في طريقها إلى الدقي، أقبلت سيارة لوري بريطانية من الجهة المضادة.. وانزلقت عجلات السيارة البريطانية بفعل المطر ولفت اللوري نصف لفة على الكوبري -الذي وضع الملك أحمد فؤاد حجر أساسه في 4 فبراير شباط 1931- وصدمت سيارة حسنين من الخلف صدمة شديدة
وسمع سائق السيارة صوت حسنين باشا الجالس في المقعد الخلفي وهو يقول: "يا ساتر.. يا ساتر يارب"
وتقهقرت سيارة اللوري إلى الخلف بعد أن ارتبك سائقها، ودار نصف دورة حول سيارة أحمد حسنين، ففوجئ بسيارة قادمة من الاتجاه الآخر، فعاد إلى الخلف مرة أخرى ليصدم سيارة أحمد حسنين مرة ثانية والتفت السائق خلفه فرأى أحمد حسنين وقد انحنى قليلاً في مكانه بالسيارة وبدأ الدم ينزف من أنفه. أوقف السائق السيارة ونزل منها يصيح ويطلب المساعدة. ومرت مصادفة في اللحظة نفسها سيارة وزير الزراعة أحمد عبد الغفار باشا صديق حسنين وزميله أيام الدراسة في أكسفورد
وأسرع أحمد عبد الغفار وحمل صديقه إلى مستشفى الانجلو أمريكان بالجزيرة، قريباً من مكان الحادث
ولكن حسنين كان أسلم الروح، فنقلوه إلى داره في الدقي
وطار الخبر إلى القصر
وأسرع فاروق وكان يرتدي بيجامة وفوقها (روب دي شامبر) وفي قدميه شبشب أسرع بملابسه هذه واستقل إحدى سياراته إلى دار حسنين في الدقي
بعد نحو ساعة، كان فاروق واقفاً أمام الجسد المسجى أمامه لحسنين.. رائده وأستاذه ومربيه ثم رئيس ديوانه..ثم قال: "مسكين يا حسنين"، وسأل ذلك عن مفاتيح مكتب حسنين، وتناولها ودخل غرفة المكتب وأغلق وراءه الباب. وكان فاروق يبحث عن أية مذكرات يكون حسنين قد كتبها، وعن عقد زواجه بأمه الملكة نازلي، وأية أوراق مهمة أخرى قد يكون تركها وراءه
ويقول كريم ثابت في مذكراته إنه ذهب إلى منزل حسنين فور علمه بالحادث، وجلس مع بعض مساعدي الفقيد الذين هرعوا إلى المنزل أيضاً. ثم دخل عليهم فاروق وكان بادي الانزعاج،ـ فغادر المساعدون تاركين لهما في الغرفة "فعزيته، فقاطعني بقوله: لقد جمعت بنفسي كل أوراقه الخصوصية هنا وفي عابدين قبل أن تمتد إليها يد!" (نهاية الملكية..مذكرات كريم ثابت: عشر سنوات مع فاروق : 1942 -1952، كريم ثابت، دار الشروق، القاهرة، 2000، ص 82)
وخرجت صحف مصر والصحف العالمية في اليوم التالي تحمل أخبار الحادث الذي راح ضحية له أحمد باشا حسنين رئيس الديوان الملكي
وقالت بعض الصحف إنها تشك في أن الحادث قضاء وقدر
قالوا إن أحمد حسنين قُتل، وإن نهايته لم تكن مجرد مصادفة.. واتهم بعضهم الإنجليز بتدبير الحادث، وذلك تصفية لمواقف سياسية قام بها أحمد حسنين، لم تعجب الإنجليز، خاصة أثناء فترة الحرب العالمية الثانية.. لكن البعض الآخر اتهم الملك فاروق بأنه هو الذي دبر حادث مصرع أحمد حسنين رئيس ديوانه. وقالوا إن الملك فاروق لم ينس أبداً حقده وغضبه علي أحمد حسنين، الذي جعل نازلي تجبر ابنها الملك فاروق على زواجها منه
ودلل هؤلاء على ذلك بأن الملك فاروق بمجرد أن سمع خبر وفاة أحمد حسنين حتي أسرع إلى فيلا أحمد حسنين في الدقي، وحصل على مفاتيح مكتبه، ثم عاد إلى القصر وفي جيبه هذه المفاتيح، واستولى على بعض الأوراق والمستندات. وقال محمد زكي حسين ـ وزير الأوقاف ـ لجريدة "الأخبار": بعد حادث وفاة أحمد حسنين بسنوات ست، أنه كان أحد الشهود الذين رأوا الملك فاروق في فيلا أحمد حسنين يوم وفاته، وقال إنه كان يشغل وقتها وظيفة رئيس مجلس إدارة المجالس الحسبية في مصر، وقد حضر بصحبة رئيس مجلس حسبي مصر إلى فيلا حسنين لحصر تركته بعد وفاته، وأنه فوجئ بوصول الملك فاروق إلى الفيلا ودهش حين رآه يصعد درجة المنزل بسرعةٍ جنونية وفي أقل من لمح البصر، ثم اتجه في الحال إلى مكتب أحمد حسنين وأخذ يجري تفتيش المكتب، ولم يمكث طويلاً وسرعان ما غادر المنزل دون أن يلاحظ أنه قدم العزاء إلى أهل الفقيد
وأضاف قائلاً: "بعد أن غادر الملك المنزل بدأت بمساعدة رئيس مجلس حسبي مصر حصر التركة، واتجهنا إلى مكتب حسنين باشا الذي اعتدى عليه الملك بتفتيشه وبعثرة ما به من أوراق، مما زاد مهمتنا صعوبة، وهنا حضرت شقيقة حسنين باشا، وذكرت لنا أن الملك فاروق تناول من هذه الأوراق وثيقة زواج شقيقها من الملكة نازلي.. لكن شقيقة أحمد حسنين أرسلت إلى الجريدة تكذّب هذا الكلام، ما جعل الجريدة تعرض التكذيب على محمد زكي حسين الذي عاد ليؤكد الواقعة.. وقال بالنص: "لقد توجهت إلى منزل الفقيد أحمد حسنين باشا، ومعي رئيس مجلس حسبي مصر وعددٌ من الخبراء، وذلك بعد أن أخطرنا بوفاته في حادث تصادم، وقابلتني السيدة شقيقته وبادرتني بالقول إن الملك حضر إلى المنزل، وصعد إلى الطابق الأعلى ودخل غرفة الفقيد ومكتبه، وقالت إنها تستنتج أنه أخذ بعض الأوراق من مكتب الفقيد
فصعدت معها إلى الطابق الأعلى، ورأيت جميع أدراج المكتب مفتوحة، والأوراق مبعثرة فيها، ما يدل على أن أحداً اعتدى على المكتب وعبث بمحتوياته، فلما سألتها عما تظنه قد أخذ من هذه الأوراق أجابت بقولها إنها تظن أنه أخذ عقد زواج المرحوم شقيقها من الملكة نازلي!"
وقد نشرت جريدة "الأخبار" في أول ديسمبر كانون أول ١٩٥٢ تصريحاً لكريم ثابت المستشار الصحفي للملك فاروق قال فيه: الذي حدث أنه لما توفي أحمد حسنين أسرعت إلى بيته، وذهب إلى هناك الملك فاروق فوراً عندما بلغه الخبر، ودخل فاروق حجرة المرحوم أحمد حسنين الخاصة وفتح جميع أدراجها، وأخذ الأوراق وانصرف، وقال لي فاروق في نفس اليوم إنه عثر في أدراج أحمد حسنين على وثيقة عقد زواجه بالملكة نازلي
وفي العدد نفسه، قال أنطون بوللي أقرب أفراد حاشية الملك فاروق: "في يوم وفاة أحمد حسنين كان فاروق متأثراً جداً، وما كاد يسمع بوفاته حتى صحبني معه إلى فراش الموت الذي كان راقداً عليه أحمد حسنين، وراح يبحث وينقب حتى أخذ أوراقا، كان مهتماً بألا تقع في يد أي إنسان، ولم يخبرني الملك عن هذه الأوراق بشيء. وأضاف بوللي قائلاً: أظن أن الملك فاروق كره أحمد حسنين باشا، لأنه شعر بعد وفاته أنه كان محتاجاً إليه، وأنه "لاص" بعد وفاته، وكان فاروق يتضايق من الشائعات عن علاقة الملكة نازلي بأحمد حسنين، لكنه في قرارة نفسه كان يعلم أنها علاقة شرعية، لكنه لم يجد عنده الشجاعة ليقول حقيقتها للناس!
"وعموماً فقد أخبرني فاروق أنه عثر على وثيقة زواج الملكة نازلي من أحمد حسنين، وأنه أعدمها حتي لا تقع في يد أي إنسان"
يومها قال فاروق لصديقه ومستشاره الصحفي كريم ثابت إن رئيس الديوان "تركنا وإحنا في عز الشغل"!
وبعد قليل، أنعم فاروق على اسم أحمد حسنين بالوشاح الأكبر من نيشان محمد علي. وفسر فاروق هذه الخطوة بأنها لكي تقام جنازة عسكرية لرائده ورئيس ديوانه
وفي تلك الليلة، سهر فاروق في "أوبرج الأهرام" مع كريم ثابت، وقال له أثناء السهرة: "لا بد أن هناك مأتماً آخر الليلة في الدقي"
وكانت نازلي منذ خلافها معه تقيم في الدار التي كانت لوالدها في حي الدقي
ثم حدَّث مستشاره الصحفي عن الليلة التي طلبت فيها أمه الملكة نازلي منه الموافقة على زواجها من أحمد حسنين، وغضبه الشديد من هذه الفكرة. وكلَّمه كيف أنه في مرةٍ أخرى لم يستطع تحمل "ما يجري تحت سقف القصر الذي مات فيه والدي، فأصدرت أمري إلى الخدم بأن يلقوا بفرش حجرة أحمد حسنين في حديقة القصر"
واسترسل فاروق في الحديث عن طلاق أحمد حسنين من لطفية هانم "زوجته الشرعية بعدما ذاقت المر من علاقته بأمي"، قبل أن يفسر ما قام به في ذلك اليوم العصيب قائلاً: "ولذلك كان أول ما عملته اليوم بعد وفاته أن جمعت أوراقه الخصوصية بنفسي خوفاً من أن يكون فيها شيء يتصل بهذه الفضيحة، فيقع في يدٍ غريبة"
وبرر الملك فاروق لجليسه سبب إبقائه على أحمد حسنين طوال تلك الفترة بالقول: "ولكني كنتُ مضطراً إلى الاحتفاظ بحسنين..كان يعرفُ طبيعتي وأخلاقي..وكان يعرفُ سياستي وأسراري..وكان يعرفُ دخائلي وشؤوني الخاصة..وكنتُ في البداية محتاجاً إليه في عملي، ثم لم أعد في حاجةٍ إليه، ولكني كنتُ قد اعتدتُ العمل معه، وكان يريحني فظل في خدمتي بقوة الاستمرار، سيما أنه كان في عمله مطيعاً ومؤدباً" (ص 84)
الغريب أن جثمان أحمد حسنين قد دفن مرتين!
المرة الأولى بعد وفاته ودفن في مقبرة الأسرة "بقرافة المجاورين".. والمرة الثانية بعد وفاته بأربع سنوات، حين بنت له الحكومة مقبرة خاصة في الجزء الشمالي من مقبرة مملوكية -بالقرب من طريق صلاح سالم الآن- تكلفت ٢٢ ألف جنيه، وتم نقل رفات أحمد حسنين إليها، وأشرف على عملية النقل حيدر باشا وأحمد عبد الغفار باشا وعثمان المهدي باشا وطارق وهاشم ولدا أحمد حسنين وابن اخته محمد علي رمضان، وتولى القيام بنقل الرفات ١٥ جندياً من رجال البحرية الملكية وثلاثة ضباط، وقد صمم المقبرة الجديدة حسن فتحي أستاذ "عمارة الفقراء" الشهير..والذي لا يعرفه كثيرون هو أن المهندس حسن فتحي - أشهر مهندس مصري عرفه العالم منذ إيمحوتب- كان صهر أحمد حسنين باشا، إذ تزوج الأول لفترةٍ من عزيزة حسنين، شقيقة أحمد حسنين
وكانت الحكومة المصرية قد طالبت الحكومة البريطانية بتعويضٍ عن حادث مصرع أحمد حسنين، فأرسلت القيادة البريطانية ـ بعد سنتين من الحادث ـ شيكاً بمبلغ 12500 جنيه إلى القصر الملكي تعويضاً لأسرة الراحل أحمد حسنين.. الغريب أن مصر كانت قد دفعت نصف مليون جنيه قبل ذلك تعويضاً عن مصرع السردار الإنجليزي سير لي ستاك، فور وقوع الحادث
وفي يوميات محمد التابعي كتب يقول يوم وفاة حسنين: "مات أحمد حسنين كما مات سنيكا!
كانت الشائعات قد تواترت بأن الملك فاروق هو الذي قتل حسنين، خطر على بالي ما حدث لسنيكا على يد نيرون
ووجه الشبه بين نيرون وفاروق واضح، فكلاهما طاغية، أحدهما حرق روما، والآخر حرق القاهرة، أحدهما قتل أمه وأخاه، والآخر قتل عرض أمه وأخوته!.. أما وجه الشبه بين حسنين وسنيكا، فهو أن حسنين كان رائد فاروق، وسنيكا كان رائد نيرون، وقد اختلف الناس في أمر سنيكا كما اختلفوا في أمر حسنين.. فحتى الآن لم يصدر التاريخ حكمه في أحمد حسنين، وهل أعان فاروق على البغي والعدوان، أم أنه كان يحاول أن يروضه على العدل والدعة؟
بل إن التاريخ لم يصدر حكمه على سنيكا، وقد مضى على وفاته ١٨٩٠ عاماً، لقد كان سنيكا فيلسوفاً، وكانت حياته مليئة بالمآزق والأهوال، وكان حسنين عالماً وأديباً ورحالة، كانت حياته كلها مآزق وأهوال، وكلاهما كان يرتفع وينخفض، يفشل وينجح، ويغوص في قاع البحر، ثم ما يلبث أن يطفو فوق سطح الماء.. وكما كان لحسنين صلة شرعية بأم فاروق، كان لسنيكا مثل هذه الصلة بأم نيرون، وقد ظل سنيكا يعلم نيرون ويشير عليه إلى عام ٦٣، وطلب سنيكا من نيرون أن يعتزل الحياة العامة فلَّبى طلبه في عام ٦٥، أصدر نيرون أمراً سياسيا لسنيكا بأن ينتحر!
وتلقى سنيكا أمر الانتحار، وكان بين أهله وأصدقائه، والتفت لهم وقال له: إنه لا يستطيع أن يجازيهم على حسن صنيعهم بأكثر من أن يعتبروا ما حدث له على يد نيرون. وفي نوفمبر ١٩٤٥ أرسل أحمد حسنين إلى الملك فاروق استقالته من منصب رئيس الديوان، وقال في هذه الاستقالة: "لقد ضحيت بحياتي من أجلك، وكان أملي أن أجعل من وجودي إلى جانبك قوة أسخرها في خدمة بلادي، وكم يؤسفني أن أملي قد خاب".. وكانت هذه الاستقالة قبل وفاته بأربعة أشهر. وكذلك فاروق أصدر أمراً سامياً لحسنين بالبقاء في وظيفته، أي بالانتحار!. وهكذا مات حسنين كما مات سنيكا"
نهاية درامية لرجلٍ عاش حياة حافلة بالدراما
ويذهب البعض إلى القول بأن رحيل أحمد حسنين أربك فاروق كثيراً وطويلاً، فقد كان حسنين بالرغم من كل شيء أباً ومرشداً، وهنا انكشف فاروق وأصبح يتصرف بتخبط؛ نظراً لتضارب آراء مستشاريه، وعدم قدرته على ضبط الإيقاع بين الوفد والإنجليز والقصر
وبعد مصرع حسنين كتبت عنه الصحف والمجلات الأجنبية باهتمام قائلة إنه كان المستشار الأول للملك فاروق وإنه كان المستشار الذي تتلمذ فاروق على يده، ما أغضب الأخير لدرجة أن كريم ثابت يقول: "وامتعض فاروق من تلك الكتابات امتعاضاً شديداً، ورسم خطاً أحمر تحت كل عبارةٍ وردت فيها لفظة مستشار استنكارا لها، وقال لي يوماً معقباً عليها: "إن هؤلاء المغفلين – إشارة إلى أصحاب تلك الكتابات- يظنون أن حسنين كان هو الذي يعمل ويتصرف، ولا يعلمون أن حسنين لم يكن سوى آلة منفذة!" (نهاية الملكية..مذكرات كريم ثابت: عشر سنوات مع فاروق : 1942 -1952، ص 15)
وبعد وفاة حسنين ظل منصب رئيس الديوان شاغراً سنة كاملة، لا لأن فاروق لم يجد الرجل الذي يُعيَّنه فيه، وإنما لأنه أحب أن يظهر للملأ أنه يستطيع أن يستغني عن حسنين، بل يستطيع أن يصرف شؤون الدولة بدون رئيس ديوان. بل إن كريم ثابت ينقل عن فاروق قوله: "لم الاستعجال في تعيين رئيس للديوان.. ألستُ أنا الرئيس الفعلي للديوان وإن لم يعرف الناس ذلك!" (ص 16)
وبعد وفاة حسنين بأسبوعين أو ثلاثة أسابيع ذهب فاروق يزور أمه نازلي في قصرها الذي ورثته عن أبيها في الدقي، ودخل عليها في قاعة القصر الكبرى.. وتسمرت قدماه عند الباب
فقد رأى أمامه في صدر القاعة صورة لأحمد محمد حسنين بالحجم الطبيعي وقد جللت بالسواد
وأمام الصورة على الأرض جلست أمه الملكة نازلي وحولها سيدات حاشيتها وخادمات القصر وجميعهن متشحات بالسواد
وعلى جانبي القاعة الكبيرة جلس نحو عشرين شيخاً يتلون الأوراد ويدعون بالرحمة للراحل
توقف فاروق لحظة عند باب القاعة، وقد عقدت الدهشة لسانه، ثم مشى إلى حيث كانت أمه وقال لها وهو يشير بيده إلى الصورة وإلى السيدات والمشايخ، قبل أن يقول: "إيه ده كله؟! وعلشان إيه ده كله! مات.. خلاص مات.. فلزوم ده إيه؟!"
انتفضت نازلي واقفة على قدميها وانفجرت في ابنها قائلةً: "ده؟ ده اللي عملك راجل.. ده اللي حافظ لك على عرشك.. بكرة راح تشوف يجرى لك إيه.. بعد موت حسنين"
هز فاروق كتفيه ساخراً، وانصرف
وإن هي إلا أسابيع معدودة حتى غادرت نازلي مصر إلى أوروبا للعلاج والراحة كما زعمت
ولكنها غادرت مصر وفي نيتها ألا تعود.. وكان منها ما كان.. وكان كذلك ما كان من فاروق.. وكيف استهتر إلى أبعد حدود الاستهتار، إلى أن وقعت ثورة 23 يوليو تموز 1952
ولعله تذكر يومئذ وهو يوقع وثيقة تنازله عن العرش قول أمه: "بكره تشوف راح يجري لك إيه بعد موت حسنين"
ينعاد عليك بالصحة والخير والسلام
ReplyDeleteKhawwta
ReplyDeleteكل عام وأنت بخير أيتها الصديقة الجميلة
كل عام وأنت أعقل خوتا في ربوع لبنان
:)
تحولت الملكيه من حكم فعلى ابان حكم محمد على الامبراطورى الى حكم اراجوزى فى عهد فاروق الذى تحول فيه الملوك الى اراجوزات لتسلية العامه فى صحف النميمه .. مهما اختلفنا مع عبد الناصر و السادات رحمهما الله او مبارك - هداه الله ! - فلا شك انها خطوه للامام خطتها كل الشعوب الكريمه فى طريق الحريه.
ReplyDeleteخساره ان امثال احمد حسنين وفاروق لم يفكرا فى مصر ابعد من احذيتهما ... لقد ضيعنا وقتا طويلا وثمينا
شكرا مره أخرى د.ياسر على الموضوع الشيق ويبقى الالم والدهشه
Ahmed Adnan - UK
ReplyDeleteكل عام وأنت بخير يا أحمد
الحمد لله أني انتهيت من هذه السلسلة، خصوصاً أني أرى أن كثيرين لم ينتبهوا جيدا إلى الأدوار التي لعبها كل من المشير عبد الحكيم عامر وعثمان أحمد عثمان وأحمد حسنين في عهود شهدتها مصر بدءاً من منتصف الثلاثينيات حتى مطلع ثمانينيات القرن الماضي
كل سنه وانت طيب يا د.ياسر
ReplyDeleteلدى سؤال ملح تعليقا عن ادوار الظل المؤثره فى حكم مصر
ياترى مين بعد المشير ابو غزاله رحمه الله يؤثر او يستطيع التأثير فى القرار المصرى ؟
سبحان الله لا تستطيع احيانا الاستمرار قويا بدون منافسين يحفزونك
شاخت السياسه المصريه بعد اقصاء الراحل
شاخت مصر الفتيه بعد اقصاءها من حلبة الصراع العربى الاسرائيلى
حتى الحزب الوطنى الفاشل بدأ يعافر بعد تهديد الانتخابات المزوره السابقه وبدأ يحاول النشاط وان كان صوريا
تفتكر نحن لصدمة صراع لنفيق ؟
Ahmed Adnan
ReplyDeleteكل عام وأنت بخير
المشكلة هي أن الفترة الحالية تشهد استمرار دائرة ظل، تعمل في الكواليس بقوة لكنها لا تستطيع أن تتطلع إلى الحكم بشكل مباشر
ولا يمكن إنكار نفوذ وتأثير شخصيات مثل زكريا عزمي رئيس الديوان، وصفوت الشريف رئيس مجلس الشورى، والنائب ورجل الأعمال أحمد عز، وغيرهم
غير أن هؤلاء يجيدون تحريك الدُمى من خلف ستار، ومن الصعب أن نعتبرهم منافسين
لقد داس النظام السياسي على شعب مصر حتى سواهم بالأرض، فلم تعد هناك نجمة تلمع، ولا وردة تنبت لتصبح شجرة وارفة الظلال
العزيز د ياسر
ReplyDeleteليس حسنين وسنيكا فقط بل الكثير من حوادث الموت فى التاريخ ما تزال محل نظر وربما من الامثلة الواردة ايضا موت توت عنخ امون واخناتون قبله
وفى كل مرة تتضارب الاراء ووجهات النظر ولا نصل للحقيقة
اما بخصوص التعويض فمن الواضح انه اما اننا ذوى ثمن رخيص او اننا نغالى فى اثمان الاخرين
تحياتى دوما
الأزهري
ReplyDeleteتعمدت الإشارة إلى قيمة التعويض، لأن لهذا الأمر مغزاه ودلالته التي لا تخفى على أحد
تلك الحوادث تشير في جانب منها إلى الغموض الذي يحيط بالكثير من الأحداث والشخصيات الرئيسية في حياتنا
نظرية المؤامرة
ReplyDeleteكل سنة وانت بكل خير
hasona
ReplyDeleteكل عام وأنت بخير
ولو أني لست متأكدا من فهم ما تقصده بشأن نظرية المؤامرة
شخصيا، لا أميل إلى فرضية المؤامرة، لكن حادث مصرع أحمد حسنين بدا غامضا وفق المصادر العربية والأجنبية على حد سواء
ولا تنسى أن الموضوع جاءت به فقرة تقول: "وهكذا عدَّل حسنين خط سيره في اللحظة الأخيرة، كأنما كان على موعدٍ مع الموت في الطريق المؤدية إلى بيته"
هناك غموض وشكوك، لكننا لا نغرق في أوهام الحكايات التي لا تستند إلى قرائن واضحة
مودتي
د. ياسر
ReplyDeleteكل عام و حضرتك بخير
بالطبع وكما هو الحال دائما ، استمتعت بقراءتى كثيرا
لكن يبقى دائما تساؤل خيالى بعض الشئ
ولو كان " أحمد حسنين باشا " لم يزل على قيد الحياة ، تعتقده كان ليوقف الثورة ؟
من يعمل لأجل ذاته أو بالأحرى يخطط لمصلحته قبل أن يوطن المصلحة العامة من أهدافه .. لا أعتقده سيكن قوة مؤثرة فى وجه تغيير كان ليكن حتمى و إن تأخر
وهى الأيام دوائر يا سيدى ، فربما تنبت لنا من الأرض الخراب يوما ..نبتة ما
ربما ..
تحياتى و احترامى
فريدة
ReplyDeleteكل عام وأنت ومن تحبين بخير
بطبيعة الحال، لم يكن أحمد حسنين سيمنع وقوع ثورة 23 يوليو 1952 لو كان حياً آنذاك. لقد كان الانقلاب على النظام الملكي نتيجة أزمات سياسية واتهامات بالفساد في القصر والحاشية، إضافة إلى القضية الوطنية من الاحتلال البريطاني
ومع ذلك، فإن البعض يرى أن فاروق خسر أحد أبرز أركان حكمه بعد رحيل أحمد حسنين الذي كان مستشاره ومرشده السياسي
إلى العزيز / ياسر ثابت
ReplyDeleteعاودنا الحنين بعد حمى الكسل والإنشغال ، ولم تزل كالعهد بك رشيقاً متأنقاً ترسم بالكلمات صوراً تغيب أحياناً ولكنها حاضرة بقوة في مشاهدنا الراهنة بدرجات متفاوتة .
فتحياتي لك وعذراً على التقصير وقلة المتابعة ، فليست مدونتك ما ُيغض الطرف عنها .
أبو البنات
ReplyDeleteأخي العزيز، كل عام وأنت بخير، وعودٌ حميد
سعيد باستئنافك رحلة التدوين بعد أن كانت في الأشهر الأخيرة على فترات متقطعة
أتمنى أن تواصل كتاباتك ومناقشة الموضوعات المختلفة بأسلوبك السلس والجميل
تحياتي لحضرتك يا أستاذ ياسر . هو انا بس عايز اقول حاجه : كريم ثابت للأسف أنسان ندل و كذاب , و كتابه اللي عمله عن الملك فاروق معظمه كذب و خداع و تلفيق !!! حضرتك كونت قايل ان من أهداف مدونة حضرتك هو البحث عن الحقيقة في تاريخنا المصري , أزاى تاخد على كلام كريم ثابت و تحوطه هنا و ده راجل غير موثوق فيه أصلا. و بعدين الملك فاروق مش هو اللي حرق القاهرة زى ما الأستاذ محمد التابعي قال في يومياته . للأسف الحقيقه في تاريخنا أختفت و انقضى عليها و محدش هيعرفها غير الله عز وجل
ReplyDeleteAnonymous
ReplyDeleteدعني أوضح لك أمراً مهماً
أولا، رأيي في كريم ثابت والدور الذي لعبه واضح ومحدد، ويمكنك الرجوع إلى ما أوردته في المدونة وفي مؤلفات منشورة لي حول شخصية كريم ثابت و دوره في إفساد الملك فاروق
ثانيا، ما أوردته عن مذكرات كريم ثابت يتم عادة مع الإشارة إلى المصدر إضافة إلى وضع شهادته أو روايته بين قوسين حتى لا يقع خلط ما
ثالثا، لا يمكن تجاهل شهادة أو مذكرات المستشار الصحفي الذي عايش فاروق عن قرب طوال عشر سنوات، ولكن مع الاهتمام بمصادر ومراجع أخرى مختلفة من كتب ومذكرات وصحف، على سبيل المقارنة والتقصي بحثاً عن الحقيقة، وهو ما أحرص على فعله دائماً
هذا مبدأ يا عزيزي، لا يتغير
مع خالص المودة