الرئيسيةالمحروسةالحكواتي

مصر قبل المونتاج

  هذا كتابٌ عن الأساطير المؤسسة لثقافتنا. حكايات عن مصر الحقيقية، وربما العالم من حولنا بشخوصه وأحداثه وتواريخه وجغرافيته وإعلامه وأقلامه....


 


هذا كتابٌ عن الأساطير المؤسسة لثقافتنا.

حكايات عن مصر الحقيقية، وربما العالم من حولنا بشخوصه وأحداثه وتواريخه وجغرافيته وإعلامه وأقلامه.

هذا ما قصدناه تحديدًا بعنوان الكتاب: مصر قبل المونتاج!

هذا الكتاب هو مراجعة للحكايات المرسلة والقصص غير الموثقة التي تخص تاريخ مصر، وهو أيضًا جهدٌ متواضع يهدف إلى نزع هالة القداسة عن شخصيات في قامة أحمد عرابي ونجيب محفوظ وأم كلثوم والملك فاروق وغيرهم الكثير.

في السطور التالية، زيارة جديدة لواقعة منسيّة أو مهملة عن اختبار إنساني بالغ الأهمية كشف الفارق بين صورة الرائدة هدى شعراوي وحقيقتها، وبحثٌ مضنٍ عن الممثل الغامض أحمد بك، فضلًا عن قصة فيلم «آلام المسيح» المصري قبل نحو 75 عامًا.

إنها محاولة للبحث عن مصر الحقيقية، بعيدًا عن الأوهام والقصص المختلقة، التي تعد صديد سنواتٍ من الغيبوبة الجماعية وغياب المعلومات بالتزامن مع تغييب العقل.

كتبنا ما كتبناه لأننا نرفض استمرار ماكينات تغييب العقول وتمجيد الخزعبلات وترديد المعلومات الزائفة على سبيل التشويه والتضليل، وسط انتظار السُذج لما لا يأتي، ثم خيبتهم وصعود نخبة القوارض والحيتان كهنة الجهاز البيروقراطي، ليفرض هؤلاء سطوتهم بمعلومات مكذوبة، تكرِّس سيطرتهم على «سوق الحكايات» في مصر.

في سطورنا هذه نسقط الأقنعة ونعيد تفكيك الحكايات لإزالة رواسب الزيف العالقة بها؛ لأننا نحترم الحقيقة والشفافية والمكاشفة، ونتطلع إلى التصدي للوصاية الفكرية والاجتماعية على التاريخ والمجتمع عبر تغييب الكثير من الحقائق والمعلومات وحجبها عن المواطن.

إن النَّظر أوجبُ من التقليد؛ لأنه باب الفهم وعنوان اليقين.

بهذا المعنى فإن التاريخ لا يُكتب على الهوى السياسي أو الثقافي أو الاجتماعي. بقدر ما تكون الروايات متسقة مع الحقائق فإنها تستقر في الضمير العام. وهذا واجب البحث عن التاريخ بلا إضافات والحقيقة بلا رتوش. لا يقدر أحدٌ أن يصادر حقائق التاريخ وفق انفعالات عابرة أو تصفية حسابات مستعصية. المراجعة غير الإنكار، والنقد غير التدليس.

قراءة التاريخ إما أن تكون كاملة وإما أن تكون مزيفة بسبب نقصانها؛ وهذا ما يغفله البعض عمدًا أو عن جهل.

لأي بلدٍ تاريخه، لكن التاريخ ليس قصصًا تُحكى بقدر ما هو دروسٌ ينبغي تعلمها وتحليل تفاصيلها الدقيقة حتى لا نكرر الأخطاء نفسها مرة بعد أخرى.

ويتعيّن هنا التمييز ما بين ما هو «تاريخي» وما هو «شعبي» جرى توارده في الأدب العام القائم على منقولات الحديث، وما ورد حتى في الغناء وعلى لسان رواة أو سجله مشاهدون. المؤرخ معروف أنه يحاول أن يصل إلى الحقيقة التاريخية من خلال وثائق أخذت أشكال خطابات ورسائل وتسجيلات ومؤرخين لعصور فاتت، كل ذلك يجرى غربلته والبحث في مدى أصالته بقدرٍ من التوثيق والاعتناء.

وهذا ما نسعى إليه صادقين في هذا الكتاب.

إن خير الكتب ما أقلقنا وأقض مضاجعنا المطمئنة، وأخذنا باتجاه قراءة جديدة أكثر وعيًا وتدقيقًا للتفاصيل وأكثر إيمانًا بمنطق الأشياء، بما يدفعنا إلى إعادة التفكير في مسلماتنا وبدهياتنا في ضوء ما استجد لدينا من قراءة ومعلومات.

إن الحقيقة في مصر عادةً غائبة أو مُغيبة بفعل فاعل، وهو ما يشوِّش الفكر ويضلل العقل ويمحو الذاكرة الجمعية للمصريين، الذين لا يعرفون عن كثير من أحداث تاريخهم وأدوار أبطالها إلا نزرًا يسيرًا.

ونتصور أن حالة الوهن التي قد تمر بها الدولة في فترةٍ من الفترات ويعاني منها المجتمع، مسؤولة عن رواج الكثير من الأكاذيب والمغالطات والأباطيل التي تتحول إلى أمور مسلَّم بها و«حقائق» متداولة، يكررها المواطن المهموم أو المصدوم أو الجاهل، وتتقاعس عن تفنيدها النخب الفكرية والثقافية والفنية والدينية، التي تنشغل عادة بأي شيء إلا الكشف عن الحقائق وإزالة الغبار الذي يكسو ذاكرتنا والغشاوة التي أضاعت بصرنا إن لم يكن بصيرتنا.

غير مقبول أن نرتضي الانكفاء على الذات، في حين أن قضايانا جد مترابطة.

بتعبير الروائي نجيب محفوظ «آفة حارتنا النسيان»، وقد كاد النسيان أن يسدل ستائره الكثيفة على الذاكرة العامة في مصر، نتيجة الانشغال بالحرائق المشتعلة في العالم العربي، ومصر في قلبه، والتراجعات الفادحة مع غياب أي بوصلة ترشد أو أمل يُرتجى، فضلًا عن أن العصبية المفرطة جراء الاستقطابات الحادة تمنع أي حوار جدي ينظر في التاريخ وتحولاته وآثاره الممتدة لنعرف الحقائق بلا إضافات أو تشويهات.

رغم ذلك فإن تعبيرًا آخر للشاعر الفلسطيني محمود درويش يضع حدًا لخشية الانزلاق إلى فقدان الذاكرة فـ«النيل لا ينسى كما كنا نظن».

سلامة الذاكرة، رغم أي عصبية مفرطة واستقطابات حادة أو تشويهات متعمدة، من ضرورات رفع الهمة العامة. عندما تسود الخزعبلات في قراءة التاريخ على حساب الحقائق فإن كل معنى مستباح وكل قضية منتهكة.

من ناحية ثانية، تظل مسألة الاستعانة بالمذكرات الشخصية للساسة والقادة والمفكرين والفنانين في عملية التأريخ محل جدل على الدوام لأكثر من سبب. ومن ذلك أن المؤرخين أنفسهم انقسموا حول أمور عدة بدءًا من الجدل حول هل المذكرات هي جزء من الوثائق المعترف بها في الكتابة التاريخية، أم أنها ليست وثيقة بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة؟ومرورًا بجدل آخر حول التفريق بين ثلاثة أشكال من الكتابة هي: المذكرات، والسيرة الذاتية، والشهادة بدلًا من التعامل معها كلها على أنها مادة مفيدة في توثيق وتحليل حدث ما أو حقبة زمنية محددة، بغض النظر عن أسلوب كتابتها، وانتهاء بالشروط الواجب توافرها في المذكرات لكي يمكن قبولها كوثيقة تاريخية .

ربما كان السلف الصالح من المؤرخين على حق، حين قالوا إن المعاصرة حجاب، فالذي يعاصر ظاهرة تاريخية يكون طرفًا فيها بالحُبِّ أو الكره، وبالمنفعة أو الضرر، وهو ما قد يحجب عنه الحقيقة، وغالبًا ما يقوده إلى الانحياز لأحد أطرافها. لهذا، ولأسباب أخرى، ارتأينا التحقق والتدقيق عبر التجوال في صفحات تاريخنا، لنستقرئ الأحداث ونعيد فهمها وإدراكها في ضوء ما لدينا من وثائق ومعلومات.

وإذا كان أنصار المعرفة المستقرة عن الماضي أو الخفيّ هم أشد أعداء المراجعة وإعادة النظر في الأمور التي تعد من المسلمات باعتبارهم «سجناء المجموعة» كما يقول بيير كلاستر، الحافظين والمحافظين على العادات والتقاليد التي حددها الأجداد والأولون، فإننا نحاول هنا التصدي لتحويل نفوذ المعرفة الجامدة حد التكلس إلى حقيقة لا تقبل النقاش.

الوعي والمقارنة والرجوع إلى المصادر المختلفة، هي أسلحتنا الأساسية، في مواجهة حكايات مختلقة وأحداث متخيلة أو مُبالغ في تفاصيلها، أراد البعض لها أن تتحول إلى تاريخنا الذي لا يُمس. هذه الحكايات والأحداث المتخيلة تحولت إلى يوتوبيا، تتحدى أو تتصدى لكل من يحاول تعطيل المستقرّ، والمتعارف عليه وإطلاق طاقة جديدة، وتوفير فرصة جديدة للتفكير المنطقي الرصين وفق معطيات الماضي ومقتضيات الواقع.

إن اجتراح حقول جديدة في الكتابة والمراجعة التاريخية محكومٌ بدعامتين رئيسيتين: الأولى متعلقة بالاستحضار الدائم للمنهجيات الحديثة القادرة على سبر موضوعات قديمة/ جديدة عبر إعادة التقييم واستخلاص نتائج غير مسبوقة؛ أما الدعامة الثانية فتعنى بإدخال مصادر جديدة لم تستثمر سابقًا على نحو وافٍ، ولم توظف في مجالات الكتابة المتعلقة بموضوع الدراسة، بهدف إزالة الالتباس حينًا أو المقارنة والمقاربة في أحيانٍ أخرى.

تتجلى فائدة ذلك في تجديد الدرس التاريخي معلوماتيًا، وفتح منافذ جديدة للبحث قد تعيد النظر في معطيات الحوادث التاريخية المستقرة التي شكّلت الوعي الجمعي والمدرسي. فالكثير من المناطق البحثية غير المغطاة سابقًا، بفعل ندرة المصادر والمعلومات التي تقف عائقًا أمام تناولها أو إخضاعها للدراسة، قد تقع في فخ عدم الدقة وتناقض الروايات والشهادات، مع وجود فجوات في المعلومات والتفاصيل.

من هنا بحاجة ليس فقط إلى تاريخ يبني الذاكرة، وإنما أيضًا إلى تاريخ يسائل الذاكرة ويراجعها إن لزم الأمر.

كثيرون منا يقعون أسرى فخ الخطأ الإدراكي الشهير (الأبيض والأسود)  Black White perception error ولا يطيق أحدهم أن يتخيل غير الحوار حول المساحة الهائلة من اللون الرمادي بين اللونين، بل سينزعج كثيرًا لو أدرك أنه حتى اللونين اللذين ينظر من خلالهما للحياة يحويان داخلهما تنوعًا كبيرًا في الدرجات.. فليس كل الأسود كلَيْل بهيم ولا كل الأبيض كندف الثلج.

المهم أن نعقل الأمور وندرك التفاصيل.

سطور كتابنا هذا هي محاولة متواضعة لتحرير العقول، حتى لا نواصل جميعًا الدوران في خانات الغيبوبة وسط شعور بعدم الفاعلية وانعدام فائدة ما نقول أو نفعل، قبل أن نستسلم للغرق في بحر الوهم العظيم.

أما بعد..

ليس هذا بكاء على «اللبن المسكوب»، بل حرصًا على ما تبقى منه، عسانا ننقذ المستقبل من وحوش الماضي وعفن الحاضر.

لقد آن لنا، في لحظتنا الراهنة، أن نتوقف ليس فقط عن عبادة الأشخاص، وإنما عن عبادة الأنماط، التي ثبتَ فشلُها، والأفكار التي اتضح زيفها؛ إذ لا وقت عندنا نضيعه فيها من جديد.

أرجو لكم قراءة تجمع بين الفائدة والمتعة.

--------------

من مقدمة كتابي:

مصر قبل المونتاج، منشورات إبييدي، 2025.


Name

إعلام,20,الحكواتي,244,المحروسة,304,بشر,150,رياضة,106,سينما,13,مؤلفات ياسر ثابت,103,مروج الذهب,171,مساخر,51,وطني الأكبر,28,
ltr
item
قبل الطوفان: مصر قبل المونتاج
مصر قبل المونتاج
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEi1d0upuQM9z7tYtooW3THrCr68le-FYLiKYDqC3rI2FUPqXoH0ju5LUpYfLVHah60HIbFJHJ8L_GRJYeKsuuIdIuEuaQIdKNw0Y6_JQJlWDKRm7Qy11vROnl29s1BmoXcZRPPjy34QJEN4WssWAEUg2J69JNd20B6GMusyQ5b0AovemijYKRhGKFH6K7Es/w448-h640/%D8%BA%D9%84%D8%A7%D9%81%20-%20%D9%85%D8%B5%D8%B1%20%D9%82%D8%A8%D9%84%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D9%86%D8%AA%D8%A7%D8%AC%20-%20%D8%B7%20%D8%A5%D8%A8%D9%8A%D9%8A%D8%AF%D9%8A.jpg
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEi1d0upuQM9z7tYtooW3THrCr68le-FYLiKYDqC3rI2FUPqXoH0ju5LUpYfLVHah60HIbFJHJ8L_GRJYeKsuuIdIuEuaQIdKNw0Y6_JQJlWDKRm7Qy11vROnl29s1BmoXcZRPPjy34QJEN4WssWAEUg2J69JNd20B6GMusyQ5b0AovemijYKRhGKFH6K7Es/s72-w448-c-h640/%D8%BA%D9%84%D8%A7%D9%81%20-%20%D9%85%D8%B5%D8%B1%20%D9%82%D8%A8%D9%84%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D9%86%D8%AA%D8%A7%D8%AC%20-%20%D8%B7%20%D8%A5%D8%A8%D9%8A%D9%8A%D8%AF%D9%8A.jpg
قبل الطوفان
https://yasser-best.blogspot.com/2025/02/blog-post_95.html
https://yasser-best.blogspot.com/
https://yasser-best.blogspot.com/
https://yasser-best.blogspot.com/2025/02/blog-post_95.html
true
5099734155506698511
UTF-8
تحميل كل الموضوعات ليس هناك أي موضوع مشاهدة الكل تابع القراءة تعليق مسح التعليق حذف الناشر الرئيسية الصفحات الموضوعات مشاهدة الكل اقرأ أيضا قسم أرشيف ابحث كل الموضوعات لم يتم إيجاد موضوع يطابق بحثك عودة إلى الرئيسية الأحد الاثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت الأحد الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت جانفي فيفري مارس أفريل ماي جوان جويلية أوت سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر جانفي فيفري مارس أفريل ماي جوان جويلية أوت سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر اللحظة قبل دقيقة $$1$$ قبل دقيقة قبل ساعة $$1$$ قبل ساعة أمس $$1$$ قبل يوم $$1$$ قبل أسبوع قبل أكثر من 5 أسابيع متابعون تابع محتوى مشروط اضغط لفك التشفير انسخ الكود ظلّل الكود تم نسخ الكود في الكيوبرد لم يتم نسخ الكود/ النص, اضغط [CTRL]+[C] (or CMD+C with Mac) للنسخ