أكبر خدعة في التاريخ: حكايات ضد النسيان

  الكمال في الإنصات، والحقيقة في البحث. ونحن إذ نبحث عن الحقيقة عبر المقارنة والتمحيص، فإننا مطالبون بالتزام قواعد جلية أولها التجرد الموضوع...

 





الكمال في الإنصات، والحقيقة في البحث.

ونحن إذ نبحث عن الحقيقة عبر المقارنة والتمحيص، فإننا مطالبون بالتزام قواعد جلية أولها التجرد الموضوعي والتنزه عن الأهواء وعدم الانسياق وراء الحكايات المرسلة والأقاويل الشائعة.

إن معاناة الباحث في مجال التاريخ والثقافة جوهرها ذلك الصراع بين الأخبار المتداولة والمصادر اليقينية، مع أهمية النظر إلى الصورة كاملة. ولهذا كان بإمكان محمد بن عبد الجبار النّفّري أن يقول في أحد مواقفه: «إذا جئت فهات الكل معك». فالكُلي هو العروة الكبرى في الوجود؛ لأنه الحقيقة ولا شيء سواها.

 الإخلاص للحقيقة، إذن، يفترض رؤية الكل.

إن التاريخ هو تخصصٌ معني بدراسة الحضارات والتطورات التي طرأت عليها بمرور الوقت. ثمة الكثير من التفسير المدمج في أي تحليل تاريخي، لكن معظم المؤرخين ملتزمون بالدقة والصدق. غالبًا ما يكتب المنتصرون التاريخ، ولبعض الوقت يمكنهم حتى التحكم في السرد، لكن عاجلًا أم آجلًا سيبدأ المؤرخون المحترفون في إيجاد ثغرات في قصتهم. لقد ملأ رمسيس الثاني مصر بالآثار التي تصف معركته مع الحيثيين في قادش بأنها انتصار عظيم، لكن اليوم معظم المؤرخين في الشرق الأدنى القديم لديهم وجهة نظر مختلفة.

يعتمد التاريخ على السجلات المكتوبة، سواء كانت سرديات أو مذكرات شخصية أو سجلات بيروقراطية أو إعلانات كبرى تم إجراؤها على الآثار. نحن نأخذ أي شيء يمكننا الحصول عليه - لكن جزءًا من عملية التاريخ هو تقييم المواد المصدرية؛ ما يعنيه المؤرخون، وما قصده المؤلفون، ومدى صدقهم، ومدى دقتهم في كل ما يمثلونه. إن الأمر لا يقتصر على التحيز الواضح والمتعمد الذي يتعيَّن علينا الانتباه إليه، بل يتعلق أيضًا بالتحيز الخفي، والتحيز الكامن تحت السطح الذي يتعيَّن علينا فهمه. فكِّرْ في المؤرخين باعتبارهم رجال شرطة المرور الذين ينبغي عليهم التحقيق في حادث سيارة بعد قرون من وقوعه؛ يجب عليهم فحص وتقييم شهادات الشهود (المتناقضة غالبًا)، ومحاولة تحديد ما حدث على الأرجح في النهاية. وبالطبع يعرف المؤرخون أنهم لا يملكون كل شيء، بل لديهم فقط الأدلة التي نجت حتى الآن. وبغض النظر عما إذا كان المرء يدرس مصر المعاصرة أو الصين القديمة أو الحرب العالمية الثانية، فإن كل مؤرخ يبدأ من نقطة مفادها أنه لن يكون لديه سوى معلومات غير كاملة للعمل بها.

لا يوجد شيء حاسم في التاريخ. إنه تفسير للأدلة، بأفضل ما في قدرة المؤرخ. كما يتم إعادة تقييمه باستمرار. في بعض الأحيان نتعلم المزيد من الحقائق –حين تظهر أدلة جديدة- ولكن في بعض الأحيان يتم إعادة تفسير الحقائق المعروفة، والنظر إليها بطريقة مختلفة.

وفي تاريخ مصر، الكثير من الأمور والموضوعات التي تستدعي قراءة جديدة وفهمًا أعمق وبحثًا أكثر دقة، للوصول إلى حقائق واضحة ومعلومات نزيهة، بعيدًا عن الصور الذهنية السائدة التي تختلط فيها الحقائق بالأساطير.

لقد دامت الحضارة المصرية القديمة أربعة آلاف عام قبل أن تستسلم للإسكندر الأكبر ثم روما في وقت لاحق. وخلال تلك الفترة لم تكن مصر تشهد تدفقًا ثابتًا من الاستقرار والاستمرارية؛ فقد سقطت الحكومات، وكانت هناك فترات مختلفة من الغزو الأجنبي وحُكم مصر، وكانت ثمة فترات من الفوضى والاضطراب بين السلالات التي استمرت أحيانًا قرونًا، وكانت الدولة يُعاد تنظيمها وإعادة هيكلتها باستمرار، كما تغيّرت الحدود، وتغيّرت اللغة بمرور الوقت، وما إلى ذلك ـ ومع ذلك فإننا ننظر إلى الوراء الآن ونرى الاستمرارية الأساسية لحضارة عريقة نسميها «مصر القديمة». ربما بعد قرون من الآن، سوف ينظر الناس إلينا ويقولون إننا نعيش اليوم في «العصر الروماني» - لأننا نعتقد أن الإمبراطورية الرومانية قد سقطت قبل 1500 عام، ومع ذلك ما زال العالم بشكل عام يعيش في دول منظمة بطرق مختلفة وفقًا للمبادئ الرومانية وبكثير من السمات الرومانية والدوافع الثقافية، من الاقتصاد والفلسفة وحتى اللغات (فكِّر في التأثير الهائل للغة اللاتينية واللغات التي خلَّفتها في أوروبا) والتي تتخلل العالم الغربي الحديث إلى عالم مستقبلي قد يتمركز في آسيا بعد قرون من الآن. لا نعرف كيف سيرانا الناس في المستقبل، ولكن من المرجح أن يكون ذلك (كما نفعل اليوم عندما ننظر إلى الوراء عبر الزمن) وفقًا لشروطهم الخاصة، مع الإشارة إلى العالم الذي يعرفونه في وقتهم.

وفي الكتاب الذي بين أيدينا جهدٌ متواضع لإعادة قراءة عدد من الوقائع المصرية وأبطالها، من منظور أقل استسلامًا للرؤى السائدة وأكثر اتصالًا بضوابط التاريخ أو ما توافر لنا منه. فقد تعرّضنا لما يكون القول إنه أكبر خدعة في التاريخ، ونعني بذلك هذا الكلام الكثير عن أبطالٍ أنقياء، ورموزٍ بلا شوائب وبشرٍ بلا مثالب.

هنا، نحاول أن ندفع الأمر باتجاه الاستقامة، دون أن نتأثر بمكر السياسة أو أن نستسلم لعاطفة الحُب ومشاعر الكراهية، حتى نمتلك تاريخًا لا يفرز تصوُّرات مزيّفة، أعيد تشكيلها وقولبتها وتنقيحها كي تتوافق مع الأهواء.

في سطور الكتاب، نصحبك في رحلة تفتيش في أوراق سنوات ما قبل ظهور «صندوق الدنيا» في مصر، مع جهدٍ متواضع للسير فوق ألغام قضايا شائكة مثل حياة اليهود في مصر، ولغز الأرقام المتضاربة لعدد سكان القاهرة.

ومن المأمول أن تساعد فصول هذا الكتاب في فتح الأعين والعقول على مزيد من الموضوعات التي تستحق إعادة النظر فيها، حتى يكون لدينا تاريخٌ أكثر إنصافًا ومكاشفةً، نستطيع أن نبني عليه قواعد المستقبل الذي نريد.

أرجو لكم قراءة تجمع بين الفائدة والمتعة.

-------

من مقدمة كتابي:

أكبر خدعة في التاريخ: حكايات ضد النسيان، دار زين، 2025.



ردود

Name

إعلام,20,الحكواتي,244,المحروسة,304,بشر,150,رياضة,106,سينما,13,مؤلفات ياسر ثابت,103,مروج الذهب,171,مساخر,51,وطني الأكبر,28,
ltr
item
قبل الطوفان: أكبر خدعة في التاريخ: حكايات ضد النسيان
أكبر خدعة في التاريخ: حكايات ضد النسيان
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEhP6weoLJZN6tLnIfHDQ0zYjPQulONPfAKnBWlR271HpHJOhqOO9z91lP_DNm0Cx4te_FPNiLiq2ZOH2WapAEKkGDyVIt21td0E4lndpkSMIMdhLsMWTs8K8nN_LcIAZDXP1PcpYHGHIwwogBhoVhIw8G3Kr48bhDXKr_brPVnedv6gWXnyMA544L13FMi5/w640-h424/%D8%A3%D9%83%D8%A8%D8%B1%20%D8%AE%D8%AF%D8%B9%D8%A9%20%D9%81%D9%8A%20%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE%20-%20%D8%BA%D9%84%D8%A7%D9%81.jpg
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEhP6weoLJZN6tLnIfHDQ0zYjPQulONPfAKnBWlR271HpHJOhqOO9z91lP_DNm0Cx4te_FPNiLiq2ZOH2WapAEKkGDyVIt21td0E4lndpkSMIMdhLsMWTs8K8nN_LcIAZDXP1PcpYHGHIwwogBhoVhIw8G3Kr48bhDXKr_brPVnedv6gWXnyMA544L13FMi5/s72-w640-c-h424/%D8%A3%D9%83%D8%A8%D8%B1%20%D8%AE%D8%AF%D8%B9%D8%A9%20%D9%81%D9%8A%20%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE%20-%20%D8%BA%D9%84%D8%A7%D9%81.jpg
قبل الطوفان
https://yasser-best.blogspot.com/2025/02/blog-post_76.html
https://yasser-best.blogspot.com/
https://yasser-best.blogspot.com/
https://yasser-best.blogspot.com/2025/02/blog-post_76.html
true
5099734155506698511
UTF-8
تحميل كل الموضوعات ليس هناك أي موضوع مشاهدة الكل تابع القراءة تعليق مسح التعليق حذف الناشر الرئيسية الصفحات الموضوعات مشاهدة الكل اقرأ أيضا قسم أرشيف ابحث كل الموضوعات لم يتم إيجاد موضوع يطابق بحثك عودة إلى الرئيسية الأحد الاثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت الأحد الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت جانفي فيفري مارس أفريل ماي جوان جويلية أوت سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر جانفي فيفري مارس أفريل ماي جوان جويلية أوت سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر اللحظة قبل دقيقة $$1$$ قبل دقيقة قبل ساعة $$1$$ قبل ساعة أمس $$1$$ قبل يوم $$1$$ قبل أسبوع قبل أكثر من 5 أسابيع متابعون تابع محتوى مشروط اضغط لفك التشفير انسخ الكود ظلّل الكود تم نسخ الكود في الكيوبرد لم يتم نسخ الكود/ النص, اضغط [CTRL]+[C] (or CMD+C with Mac) للنسخ