أيام العظمة والانحدار: صفحات من تاريخ المحروسة

  هذا كتابٌ وضعتُ مادته وغيّرت فيها مرات ومرات. لم تستقر فصول الكتاب ومادته إلا حين نشرتُها بالصورة التي بين يديك الآن، إيمانًا مني بأن أك...

 



هذا كتابٌ وضعتُ مادته وغيّرت فيها مرات ومرات.

لم تستقر فصول الكتاب ومادته إلا حين نشرتُها بالصورة التي بين يديك الآن، إيمانًا مني بأن أكثر الكُتَّاب شجاعةً هو من لديه مرونة في الحذف؛ حذف كلمة.. جملة.. فقرة.. فصل، بل وأحيانًا حذف عمل بالكامل. ذلك هو الكاتب المتحقق المتشبث بالإبداع فقط ويمتلك شجاعة أن يرمي من عمله ما لا يضيف له بل ينتقص منه.

حتى عنوان الكتاب، تغيّر مرات ومرات، إلى أن استقر به الأمر على النحو الذي ترونه وهو بين أيديكم.

في الكتاب، نطالع حكايات موثقة ومعلومات حرصنا على تدقيقها، من عصورٍ مختلفة. نقرأ عناوين لافتة مثل «نساء المماليك.. من الخطف إلى «البهطلة»، و«غازية الخنّاقة.. ريا وسكينة المماليك»، و«نساء مصر العثمانية.. من الالتزام إلى الخُلع»، و«أوقاف وتكايا.. رجال الأعمال الخيرية»، و«ضرائب إسماعيل.. ثمن الأبهة»، و«الحبر.. وذات أفندينا».

وإذا كنا تناولنا بعض المهن التي اختفت في فصول «البوسطة.. اختفاء ساعي البريد»، و«السقا مات.. والمهنة اندثرت»، و«الأراجوز.. الساخر المنتصر دائمًا»، فإننا تكلمنا في ملف المال والاقتصاد عن قضايا مختلفة، مثل «الصراع بين صاغة مصر» و«رحلة الجنيه أمام الدولار».

وفي باب التاريخ، نقرأ عن «تأميم القناة.. زيارة إلى التاريخ»، و«حسناء الموساد.. وخرائط السد العالي»، و«التاريخ السري للأحلام السياسية» و«أشهر الشائعات في نصف قرن».

إن التاريخ هو السرد. ومن الفوضى يأتي النظام. ونحن نسعى إلى فهم الماضي من خلال تحديد وترتيب «الحقائق»؛ ومن هذه السرديات نأمل أن نفسِّر القرارات والعمليات التي تشكِّل وجودنا. وربما نستطيع حتى استخلاص الأنماط والدروس لتوجيه -ولكن ليس لتحديد- استجاباتنا للتحديات التي نواجهها اليوم. التاريخ هو دراسة الناس، والأفعال، والقرارات، والتفاعلات والسلوكيات. وهو موضوعٌ مُقنعٌ للغاية لأنه يجسِّد موضوعات تكشف عن الحالة الإنسانية في كل مظاهرها والتي يتردد صداها عبر الزمن: القوة، والضعف، والفساد، والمأساة، والانتصار. ولا يوجد مكان آخر تكون فيه هذه الموضوعات أكثر وضوحًا من التاريخ الاجتماعي والاقتصادي، الذي يشكِّل النواة الضرورية لهذا المجال والأكثر أهمية من بين الكثير من المناهج لدراسة التاريخ. ومع ذلك فقد خرج التاريخ الاقتصادي والاجتماعي عن دائرة الاهتمام، إلا قليلًا، وتعرّض للإهمال إن لم يكن للشيطنة، باعتباره باليًا وغير ذي صلة. وكانت النتيجة تآكلًا كبيرًا لفائدة تنظيم وشرح واستخلاص الدروس من الماضي.

إن الغرض الأساسي للتاريخ هو أن يكون في مركز نقاش متنوع ومتسامح ودقيق فكريًا حول وجودنا: أنظمتنا السياسية، وقيادتنا، ومجتمعنا، واقتصادنا، وثقافتنا. ومع ذلك، فإن المناقشة المفتوحة والحرة -كما هو الحال في الكثير من مجالات الحياة- غالبًا ما تكون مفقودة وليس من الصعب تحديد سبب هذا التعصب.

يمكن أن تكون كتابة التاريخ أداة قوية؛ فقد شكّلت الهويات، وخاصة على المستوى القومي. وعلاوة على ذلك، فإن هذه الكتابة التاريخية تمنح أولئك الذين يسيطرون على السرد القدرة على إضفاء الشرعية على أو تشويه سمعة الأفعال والأحداث والأفراد في الحاضر. ومع ذلك، فإن حشد التاريخ وإرساله إلى المعركة لمجرد خدمة احتياجات الحاضر هو إساءة استخدام واستغلال. لا ينبغي للتاريخ أن يكون سلاحًا في قلب الحروب الثقافية. ومن المحزن، مرة أخرى، أنه كذلك: يتم استخدامه بشكل أخرق من قبل أولئك الذين يسعون عمدًا إلى فرض أجندة أيديولوجية واضحة. لقد أصبح التاريخ خادمًا لسياسات الهوية وجلد الذات. وهذا لا يؤدي إلا إلى تعزيز الفهم الضعيف والأحادي البعد للماضي ويقلل باستمرار من فائدة هذا المجال. يقف التاريخ عند مفترق طرق؛ وعليه أن يرفض اتباع اتجاه العصر.

إن أي دراسة معمقة ومدعمة بحجج قوية لأي جانب من جوانب الماضي تعتبر بالنسبة لنا تاريخًا. ولعل أفضل المؤرخين هم الذين يستكشفون «السبب» و«الكيفية»، ويستخدمون مختلف المراجع والمصادر المتاحة لرسم ملامح عصور مضت أو شخصيات عاشت في أزمنة سابقة.

لا شك أن التاريخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي يشكِّل أهمية بالغة للتاريخ كعلم. بل إننا ما زلنا لا نولي اهتمامًا كافيًا لتاريخ الأفكار، والفنون، والطب، والفلسفة، والترفيه. كما أننا لا نشعر بالارتياح بشكل خاص إزاء المناهج السِيرية في التعامل مع التاريخ. ولا يمكن معالجة أي من هذه الموضوعات التي قد تكون ثرية إلا إذا تخلينا عن معادلتنا القديمة للأرشيف بمجموعة من رزم الورق المصفر. ولن يكون من السهل إزاحة هذا الصنم، ولكننا نرجو أن تعمل الأجيال القادمة من المؤرخين على تقليصه بقدر أعظم من الإقناع الذي تمكنت أجيالٌ سابقة من حشده.

إن إحدى الطرق لمحاولة الإجابة على سؤال ماهية التاريخ هي أن نسأل أنفسنا ما هي التواريخ ومن هي الجهات التي تخدمها؟ قد تكون نقطة البداية الشائعة هي أن التواريخ مفيدة لإخبارنا كيف وصلنا إلى «هنا». وقد تتخذ مثل هذه التواريخ شكل قصص الأصل، أو روايات خطية وربما غائية نسبيًا -كيف وصلنا إلى تنظيم مجتمعاتنا وأنظمتنا بالطريقة التي لدينا الآن، على سبيل المثال- أو، كما يقول المثل غير العلمي، سلسلة من الدروس التي يجب أن نتعلم منها من أجل تجنب عار التكرار.

إن مثل هذا الفهم للتاريخ يخفي في داخله إمكانية أكثر إثارة وخطورة - وإن لم تكن بالضرورة متناقضة. فكما قد ننظر إلى الماضي لفهم أفضل للطرق المختلفة والمعقدة التي نشأ بها عالمنا الحالي، قد يضع المؤرخون أنفسهم أيضًا في مهمة إلقاء الضوء على العوالم غير المحققة وعوالم الحاضر الأخرى التي ربما كانت موجودة. إن مثل هذه التواريخ، على نحو يخالف البديهة، تساعدنا على فهم عصرنا بشكل أفضل إما من خلال التأكيد على احتمالات العالم من حولنا أو، اعتمادًا على وجهة نظرك، القوة الدائمة للهياكل المسؤولة عن إغلاق تلك المسارات الأخرى.

تلك حقائق تاريخ لا يصح أن تنسى، وتلك بدهيات سياسة لا يجوز أن تبهت.

إن مثل هذه الأنواع من التواريخ تتطلب الاهتمام بالسرديات والمنظورات التي ضاعت في الروايات التاريخية السائدة، وغالبًا الاستعادة وإعادة البناء وترتيب الأحداث. إن استعادة ما تم استيعابه ونسيانه قد تخدم غايات أكثر تحررًا وتفتح مساحات من الإمكانات النقدية والخيالية لعصرنا.

وهذا الكتاب هو محاولة متواضعة للسير على هذا الطريق، عبر إعادة قراءة الأحداث والتقاط التفاصيل والموضوعات التي ارتأينا أنها علامات على درب التطور الاجتماعي والاقتصادي للمحروسة عبر عصورٍ وعهودٍ متعاقبة.

إن كل مؤرخ ينظر إلى العلاقة بين الماضي والحاضر بشكل مختلف. بالنسبة لنا، كان تحديد نقاط التوتر ومحطات الصراع اجتماعيًا واقتصاديًا، عبر أنسنة التاريخ، مؤشرًا له دلالاته المهمة على تطور المجتمع المصري وتشكُّل ملامح شخصية مصر وأهلها عبر قرون طويلة.

يبقى أننا قرأنا ورصدنا واجتهدنا، كي نعرف كيف كنا، وكيف أصبحنا، في عالمٍ يمور بالتغيرات.

أتمنى لكم قراءة تجمع بين الفائدة والمتعة.

--------

من مقدمة كتابي:

أيام العظمة والانحدار: صفحات من تاريخ المحروسة، دار زين، 2025.


ردود

Name

إعلام,20,الحكواتي,244,المحروسة,304,بشر,150,رياضة,106,سينما,13,مؤلفات ياسر ثابت,103,مروج الذهب,171,مساخر,51,وطني الأكبر,28,
ltr
item
قبل الطوفان: أيام العظمة والانحدار: صفحات من تاريخ المحروسة
أيام العظمة والانحدار: صفحات من تاريخ المحروسة
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEiKCKma3GikjDSPt6qj_v2TJLobsZZ_JSQhbdzNL5Qcpx5SRct93CyhD4yhAlgpqyPsdW0X28DqChqMREiQCEHdHzTsthtGroJLSySMeOheIM_0XHgod19StWLtGbAw8RJJGUrtLQVt6l0FtwvINZ7u1ITBuvlryT0yA6S6WMzcU3KBs-y3jO3OyNAiSEoX/w640-h400/%D8%BA%D9%84%D8%A7%D9%81-%20%D8%A3%D9%8A%D8%A7%D9%85%20%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B8%D9%85%D8%A9%20%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%AD%D8%AF%D8%A7%D8%B1%20-%20%D9%85%D8%B9%D8%B1%D8%B6%20%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8%202025.JPG
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEiKCKma3GikjDSPt6qj_v2TJLobsZZ_JSQhbdzNL5Qcpx5SRct93CyhD4yhAlgpqyPsdW0X28DqChqMREiQCEHdHzTsthtGroJLSySMeOheIM_0XHgod19StWLtGbAw8RJJGUrtLQVt6l0FtwvINZ7u1ITBuvlryT0yA6S6WMzcU3KBs-y3jO3OyNAiSEoX/s72-w640-c-h400/%D8%BA%D9%84%D8%A7%D9%81-%20%D8%A3%D9%8A%D8%A7%D9%85%20%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B8%D9%85%D8%A9%20%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%AD%D8%AF%D8%A7%D8%B1%20-%20%D9%85%D8%B9%D8%B1%D8%B6%20%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8%202025.JPG
قبل الطوفان
https://yasser-best.blogspot.com/2025/02/blog-post_41.html
https://yasser-best.blogspot.com/
https://yasser-best.blogspot.com/
https://yasser-best.blogspot.com/2025/02/blog-post_41.html
true
5099734155506698511
UTF-8
تحميل كل الموضوعات ليس هناك أي موضوع مشاهدة الكل تابع القراءة تعليق مسح التعليق حذف الناشر الرئيسية الصفحات الموضوعات مشاهدة الكل اقرأ أيضا قسم أرشيف ابحث كل الموضوعات لم يتم إيجاد موضوع يطابق بحثك عودة إلى الرئيسية الأحد الاثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت الأحد الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت جانفي فيفري مارس أفريل ماي جوان جويلية أوت سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر جانفي فيفري مارس أفريل ماي جوان جويلية أوت سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر اللحظة قبل دقيقة $$1$$ قبل دقيقة قبل ساعة $$1$$ قبل ساعة أمس $$1$$ قبل يوم $$1$$ قبل أسبوع قبل أكثر من 5 أسابيع متابعون تابع محتوى مشروط اضغط لفك التشفير انسخ الكود ظلّل الكود تم نسخ الكود في الكيوبرد لم يتم نسخ الكود/ النص, اضغط [CTRL]+[C] (or CMD+C with Mac) للنسخ