لا شيء يموت، كل شيء يتحوَّل. تنطبق هذه المقولة على السينما التي بدأت تتيح -أكثر فأكثر- أنماط مشاهدة مختلفة تصنع تفاعلًا متجددًا مع المتل...
لا شيء يموت، كل شيء يتحوَّل.
تنطبق هذه المقولة على السينما التي بدأت تتيح -أكثر فأكثر- أنماط
مشاهدة مختلفة تصنع تفاعلًا متجددًا مع المتلقي، وذلك في ضوء التحولات الاجتماعية
والوعي السياسي والابتكارات التكنولوجية التي تسهّل انتشار تفاصيل من الحياة
المتأزمة لشعوب تعيش في هذا العالم.
عبر مقاطع الأفلام، يتوغّل الجمهور في الزمان والمكان، فيحدث لقاء
بين الماضي والحاضر والمستقبل. أما الحكايات التي تقف عندها الأفلام فتتراوح بين
المتخيل والواقعي.
إن السينما هي الوسيلة الأكثر دقةً للأشباح؛ أشباح الليل بغرابتها
المقلقة، أو أشباح ماضٍ لا يمكن الوصول إليه أو أشباح المستقبل الغامض أو اللاوعي
المعذب، من دون أن ننسى الأشباح غير المادية للسينما نفسها، تلك الأشباح الموجودة
فقط على فيلم 35 ملم.
تتولّى السينما تعريفنا على الكون والنفس على حدٍ سواء، وتُحفزنا على
أقصى حدود المغامرة، ثم تتركنا على حافة الأمل. إنها تجارب حميمة وسرية، تبحث عن
شيء من الأمن والطمأنينة.
تنهض الصورة أوّلًا وأخيرًا مستحوذة بالتفاصيل على أذهاننا؛ لذا نقع
في غرام المخرج الذي يلتقط التفاصيل كصائد فراشات في حقل، ويمنح الأشياء القدرة
على أن تكون في مساحة التعبير البصرية الحُرّة.
لا يمكن إنكار سطوة الصورة المرئية ومدى قدرتها على
تشكيل فهمنا للمجتمع والبيئة المعيشة بأبعادها المختلفة. إنها رحيق الخيال، وأشباح
النّداءِ الأوّل تُفخّخُ أيامنا بالانتشاء، واللحن البعيد الذي
يتقن مقام الصّبا، وفائضُ العناق الذي يفوحُ من أجسادنا، والنّارُ المطّاطيّةُ
التي تخرجُ من حنجرةِ غيمة، والشهقة التي تتعامد مع لحظة النهاية.
والسينما
بشكلٍ عام هي شريط حياتنا الذي يمرُّ أمامنا ببطء، والحكايات التي تطارد الخيانات
المختبئة في شقوق الجدران، والنساء اللاتي تئن من الظمأ، والشباب الذي يتعرّى
للزّجاج والموسيقى، والأشجار التي لا تكتمل على الطرق السريعة.
في كثير من الأفلام التي أحببناها عباراتٌ خالدة،
واقتباساتٌ تقف على خطوط متعرِّجة، وكنزٌ من المصادفات التي ليست سعيدة بالضرورة.
تمتلك السينما قدرة فذة على إيقاف دوران الزمن، بل والنحت فيه؛ لذا
أحببناها وشعرنا بأنها تعيد تشكيل هوياتنا وانفعالاتنا، وتسافر بنا إلى أزمنة
مختلفة وأماكن لم نكن نحلم بالوصول إليها.
ثمة أفلام رؤيوية تعبر فوق أسوار الزمن، بحيث يكون رأسها في المستقبل
وجسدها في الحاضر. ثمة أيضًا فيلم يحمل أصداء زمن ماض وهواجسه وأحلامه وفراديسه
الاصطناعية وأوهامه.
مثل هذه الأعمال قد لا تُفهَم إلا بعد أعوام على إنتاجها.
تعتبر الأفلام والعروض أداة رائعة للهروب من واقعك اليومي. إذا كنت
تشعر بالتوتر والقلق، إن بوسعها مساعدتك على التأقلم. لقد ثبت أن الكوميديا تقلل من مستويات هرمون التوتر وضغط
الدم. ووفقًا لهذه الدراسة، فإن الأفلام الكوميدية والأفلام التي تجعل الناس
يضحكون، لها تأثير إيجابي على وظيفة الأوعية الدموية. ومع ذلك، فإن هذا هو التأثير
المعاكس لمشاهدة فيلم مرهق عقليًا؛ لذا فإن اختيارك للفيلم مهم!
ثمة عنصرٌ اجتماعي أيضًا. سواء كنت تشاهد فيلمًا
أو عرضًا مع الأصدقاء والعائلة، أو تناقش النجاحات والإخفاقات على وسائل التواصل
الاجتماعي، فإن المشاركة في الترفيه يمكن أن تجعلك أكثر سعادة. إذا شاهدت مسلسل Game of
Thrones (وربما فعلت ذلك)، فقد تتذكر مدى تحوله إلى ظاهرة ثقافية. أصبحت الحلقة الأسبوعية
موضوعًا للمحادثات عبر كل الوسائط التي يمكنك التفكير فيها تقريبًا. يمكن أن تساعد
التنشئة الاجتماعية في تقليل مشاعر الوحدة، كما أنها تزيد من حدة الذاكرة والقدرات
المعرفية، وقد تساعدك على العيش لفترة أطول.
والأكثر من ذلك، يمكن للأفلام أن تساعدنا على تعلم أشياء جديدة. ليس
عليك مشاهدة فيلم وثائقي لاكتساب معرفة جديدة والتعرف على الثقافات الأخرى وحتى
تغيير وجهة نظرك حول القضايا التاريخية أو الاجتماعية أو السياسية المهمة.
يتضمن العلاج بالسينما مشاهدة الأفلام بتوجيه
من المعالج لأغراض علاجية محددة. يتم استخدام هذه الطريقة كجزء من العلاج الفردي،
أو العلاج الأسري، أو العلاج الجماعي، بل ويمكن أن تكون السينما مفيدة كجزء من
استشارات الأزواج. يوضح برنامج Good Therapy أن «الجمع بين العناصر الموضوعية - الموسيقى والحوار والإضاءة والصور -
يمكن أن يثير في كثير من الأحيان مشاعر عميقة لدى المشاهدين، مما يسمح بالتأمل
الشخصي ويوفر منظورًا جديدًا للأحداث الخارجية».
في المقابل، يبدو تاريخ الفن السابع زاخرًا بالتحديات والتحولات، من
دور الرقابة إلى نشأة معاهد التمثيل، ومن التجارب السينمائية الواعدة إلى تجسيد
نماذج إنسانية معينة.
والكتاب الذي بين أيدينا يحاول استقراء تاريخ السينما، مع إلقاء
الضوء على علامات وأفلامٍ
تستحق التذكر، مما يمثل تجربة بصرية مذهلة نتعامل معها بكل حواسنا.
على مستوى السينما المصرية، ثمة دراستان شاملتان عن «قصة أول معهد للتمثيل
في مصر» و«سيف الأخلاق العامة.. تاريخ الرقابة». ونحن على ثقة بأن
القارئ قد يجد كل ما هو جديد في هذين البحثين الموثقين بالمصادر والمراجع ذات
الصلة.
أما
بالنسبة للسينما العالمية، فقد تطرَّقنا إلى «الأحلام المحظورة» وتاريخها على الشاشة، واستعرضنا
«سينما الأشباح» و«شعراء على الشاشة»، وتحدّثنا عن «قُبلات هوليوود.. نأسف على الإزعاج» و«أفلام أفضل من الكتب المقتبسة عنها».
كما حللنا بالنقد والرصد موقف المخرج كوينتن
«تارانتينو وقاعدة الأفلام العشرة»، ولم يغب عنا
الحديث عن «جاك نيكلسون.. الكنز المختفي»، و«ألان
ديلون.. أيقونة الوسامة»، و«أداء رائع.. لم يلاحظه
أحد»، و«الختم
السابع».. سيرة
المكر اللذيذ»، و«مونيكا
فيتي.. ابتسامة تُفكِّك العزلة» في مجموعة من الأفلام. وأفردنا مساحة لائقة لاستعراض «أهم 50 فيلم رعب» و«أفضل 100
فيلم.. المرأة تتصدر».
وربما يلاحظ القارئ أن
الكتاب الذي بين يديه يركز على الأعمال الفنية ومسيرة صناعة السينما وما واجهته من
عقبات، مع تقديم باقة من الاختيارات لأفضل الأفلام - سواء أفلام الرعب أو غيرها-
ولعل السبب في ذلك هو أننا ارتأينا أهمية إلقاء الضوء على الصناعة ككل، وتطورها أو
التحديات التي واجهتها، فضلًا عن توفير دليل ملخص للمشاهد كي يتعرف على الاختيارات
المناسبة له، إن شاء متعة المشاهدة والتذوق الفني للأفلام.
أتمنى لكم قراءة
تجمع بين الفائدة والمتعة.
------------
من مقدمة كتابي:
سينما النحت في الزمن، دار زاجل مصر، 2025
ردود