ثورة المائدة: تاريخ عائلي للطعام

  الطعام غرام. صحيحٌ أنه حاجةٌ إنسانية مُلِّحة، تتصدَّر أولوياته في الحياة اليومية، لكنها ترتفع وتسمو إلى مصاف الذائقة كلما كان الطعام شهيًا...

 




الطعام غرام.

صحيحٌ أنه حاجةٌ إنسانية مُلِّحة، تتصدَّر أولوياته في الحياة اليومية، لكنها ترتفع وتسمو إلى مصاف الذائقة كلما كان الطعام شهيًا وفن الصنعة جليًا.

إنه الحُبُّ والُألفة واللذة والمتعة.

أما المطبخ فهو كتابٌ إنساني فاخر، يزخر بالحكايات والأسرار والتجارب، التي خرجت من رحمها المخبوزات والحلويات والمشروبات والعصائر، واجتمعت فيه أطباق الخضراوات واللحوم والسلطات والبروتينات والنشويات والأطعمة المحفوظة والمجففة.

في قصة الحُبِّ الوطيدة هذه، ثراءٌ وغنى، وطرائف ولطائف، وذكرياتٌ شخصية وعائلية، تتسع لمجلدات.

وسواء أكان تناول الطعام بافتراش الأرض، أو على موائد منخفضة (أو «طبلية») أو مرتفعة، أو حتى في بوفيه مفتوح، فإن الطعام بأطباقه المطبوخة والمسلوقة والمقلية والمشوية، وأصنافه المخبوزة، يجسِّد الاشتهاء وثنائية الجوع/الشبع، المتآلفة مع روح المودة والضيافة، وسكينة المكان وقيمته.

إن الغذاء هو الحياة، والحياة هو الغذاء.

ثمة الكثير من الدراسات التي تُبيِّن كيفية «صُنع الطعام بحُبّ» في المنزل أو خارجه، مما يساعد الجسم على تحقيق التوازن والإشباع النفسي والجسدي اللازمين لكل إنسان. ولا يمكن التقليل من أهمية تجارب الطعام في حياتنا وإبداعنا ورفاهيتنا؛ إذ إن شم الطعام لبضع دقائق يمكن أن يساعد الجهاز الهضمي ليعمل بشكل صحيح.

ولعلنا لا نبالغ حين نقول إن الغذاء هو واحد من أكثر الأشياء إثارة للذكريات وتجسيدًا للترابط بين الأفراد والعائلات، وهو أيضًا أحد أهم طرق التعبير عن الثقافة. ومن خلال الغذاء يمكن للدول أن تروي قصصها، ومن خلالها أيضًا، يمكننا فهم تاريخهم وتقاليدهم بشكل أفضل.

والطعام كما هو معلوم، ابن التاريخ والمجتمع، فلا استقراء لتاريخ الطعام بدون فهمٍ عميق لصفحات التاريخ الإنساني والتطور الاجتماعي، بل والاقتصادي والسياسي، الذي يجعلنا أكثر قدرة على الربط والتفسير وتأصيل ذائقة الإنسان عبر العصور وعلى امتداد هذه الأرض التي نتقاسم خيراتها ومكوناتها.

في الوقت نفسه، يحتل الغذاء مكانة مهمة في الحياة الاجتماعية والثقافية في بلادنا العربية، ويترتب عليه تأثير كبير على التقاليد والعادات الاجتماعية، وتعتبر بعض الأطعمة والمشروبات جزءًا من التراث الثقافي والتقاليد المحلية، وتتأثر التقاليد والعادات الاجتماعية بالأطعمة والمأكولات المختلفة في المناطق المختلفة، حيث تتميز كل منطقة بأطعمة وأكلات محلية متميزة، ويؤثر بشكل كبير على التقاليد والعادات الاجتماعية في هذا البلد أو ذاك، وتأثر هذه الثقافة بالتاريخ والجغرافيا والتقاليد والعادات الغذائية المتوارثة عبر الأجيال.

يتداخل تاريخ الغذاء مع المنتجات الغذائية والتوابل والأعشاب المختلفة. ومع تطور الحياة الاجتماعية والثقافية وزيادة حجم التبادل التجاري بين البلدان، تطورت أيضًا المأكولات والأطعمة المحلية وظهرت عدة أطباق ومأكولات جديدة تعكس التنوع والغنى في الثقافة الغذائية.

 لقد شكَّلت ثقافة الطعام مادة ثرية للدراسات الأنثروبولوجية، التي تحاول قراءة تطور علاقة المشرقيين مع طعامهم، والنظر إلى التحولات التي تُحدِثها العوامل الاقتصادية والمناخية في عالم الغذاء، ودور الفتوحات الإسلامية في توسع قائمة مفردات الغذاء المعروفة للسكان البدو أو الحضر، وصولًا إلى الدمج الذي يصنعه الأفراد في حيواتهم بين متعة الأكل ومتع أخرى مختلفة.

وتزخر الدراسات الأنثروبولوجية للطعام بدراسات وأبحاث تتناول العلاقة بين الثقافة والطعام وتحليل العادات الغذائية والتقاليد المتعلقة بها، ورصد التغيرات في العادات الاجتماعية المتعلقة بالطعام، وفي مقدمتها التغير في نمط الحياة والتغيرات الاقتصادية والثقافية والتكنولوجية، التي أدت جميعها إلى تغيير العادات الغذائية.

ثقافة الطعام، إذن، هي جزء أساسي من التراث الثقافي لأي مجتمع، فهي لا تقتصر على تحضير الأطعمة وتناولها بل تمتد إلى العادات والتقاليد المحيطة بها، وتعكس تاريخ وثقافة وتراث المجتمع، ومن خلال الاهتمام بثقافة الطعام، نحافظ على هذا التراث ونعمق الروابط الاجتماعية والتواصل بين الأفراد والجماعات المختلفة. يقول جيفري ستيجمان: «الطعام هو مرآة للثقافة والتاريخ والتقاليد، ويعكس أسلوب الحياة والقيم الاجتماعية». ويقول أنتوني بوردين: «الطعام هو باب للدخول إلى ثقافة وتاريخ أي مجتمع، لا يمكن فهم ثقافة أي مجتمع بدون فهم الطعام الذي يتناولونه».

لقد تجاوزت الدول النظر إلى الغذاء كأداة للوصول إلى قوة الجسد ودعمه عبر وجبة متكاملة متوازنة إلى ما هو أكثر شمولًا من ذلك المفهوم الضيق؛ إذ أصبح يمثل نوعًا من النفوذ المادي والهيمنة عبر استغلال أطباقها الشهيرة في الرواج الثقافي والسياحي للبلد، استنادًا على أن الغذاء جزء أصيل من ثقافة الشعوب، إضافة إلى أن أول ما يسترعي انتباه أي سائح هو مطاعم مقصده السياحي، وما تُقدِّمه من أكلات مميزة بنكهات مختلفة، حتى أصبح ذلك مدعاة للتفاخر بين الدول وساحة لمعارك طاحنة بين البلاد حول أصل ونشأة أكلةٍ ما.

وفي الوقت الذي وثقَّت الحضارة الفرعونية كل ما يخص الغذاء على جدران المعابد والمقابر صانعة بذلك إرثًا ثقافيًا عظيمًا، فإن الإنسان المصري الحديث أهمل هذا التوثيق، ما يمثل تهديدًا بطمس الهوية الوطنية؛ لأن التأريخ للأكلات الشعبية المتوارثة عبر العصور لا يقتصر على التأريخ للبعد الغذائي، إنما يتضمن أيضًا توثيقًا للأبعاد السياسية والدينية والجغرافية والاقتصادية التي مرت بها البلاد كذلك، كما أنه يشكل جانبًا محوريًا من حضارتنا الحديثة.

وعلى امتداد قرون، تواصلَ الناسُ عبر موائد الطعام واستغلوا فترات تناول الطعام للوصول إلى أهداف سياسية. وثمة أسباب وجيهة تقف وراء ذلك. تاريخيًا، كثيرًا ما جرى النظر إلى طاولة الطعام بوصفها مساحة محايدة يجري عندها وضع الأسلحة جانبًا، والانخراط في محادثات صريحة، سعيًا لبناء إجماع، والتوصل إلى اتفاقات.

وقد استغل قدماء المصريين والقادة اليونانيون والرومان وأباطرة الصين والقياصرة الروس إغراء الطعام لتوسيع نطاق نفوذهم. كما استلهمت جاكي كينيدي أمسياتها من أمسيات لويس الرابع عشر ملك فرنسا. وحرص الرؤساء الأميركيون المعروفون بحُبِّهم للطعام، مثل توماس جيفرسون، وفرانكلين روزفلت، ودوايت أيزنهاور، وباراك أوباما، على استغلال وجبات العشاء للتواصل مع القواعد السياسية، وجمع المعلومات، والترويج لأجنداتهم.

واليوم، يُستخدم مصطلح «دبلوماسية الطهي» لوصف كيف يستخدم زعماء العالم وجبات العشاء الرسمية وغيرها من الوجبات الرسمية للتواصل على نحو يحمل طابعًا شخصيًا أكبر. وتصف «دبلوماسية الطعام» الطريقة التي تستخدم بها الدول مطابخها لتسويق نفسها في أوساط دول أجنبية، وتعزيز التجارة والسياحة. وكلٌ من النهجين يعمل على تعزيز حُكم القوة الناعمة، في مقابل القوة العسكرية الصارمة، وقد أثبت كل منهما كونه أداة فاعلة في الإقناع.

في الكتاب الذي بين أيدينا لائحة طعام تُجسِّد في جانبٍ منها ذوقًا شخصيًا للكاتب، في الوقت الذي يتنقل فيه القارئ بين الأنواع والأصناف بخفةٍ ورشاقة وهو يرص الأطباق وينتقي من مائدة الأطايب ما لذ وطاب.

وعبر صفحات الكتاب وسطوره نصحبك في رحلات شائقة تتجول عبر الزمان لسبر حكايات تاريخية تستمتع خلالها بمعرفة المزيد عن تاريخ الطعام، مثل: مطابخ العصر الذهبي للإسلام، وحكايات كنوز المطبخ الشرقي، والمائدة العامرة التي عرفها أسلافنا أو يتنعم بتذوقها مجايلونا.

لا نُقدِّم هنا وصفات هذا الشيف أو تقنيات ذاك، أو ننقل آراء «بلوغر الطعام» بحذافيرها إلى صحون المائدة، بل نحفر بدرجة أكبر وأعمق بحثًا عن الأصول والتفاصيل التي لم تنل قدرها من البحث والشرح، سواءً على مستوى إعادة قراءة كنوز التراث العربي والإنساني، أو تقديم ما يُمثِّل رؤية موسوعية لثقافة الطعام من صورة المائدة إلى ثورتها، ومن حكاية المطابخ إلى تاريخ المطاعم.

يركز كل فصل على موضوع أو فكرة أو قضية معينة في تاريخ الطعام. تُسلِّط دراسات الحالة التي نناقشها في هذه الفصول الضوء على الاتجاهات الأكثر عمومية لعصور وعهود وممالك وامبراطوريات، مما يوفر للقارئ نظرة ثاقبة للتغيرات واسعة النطاق والدراماتيكية في تاريخ الغذاء من خلال فهم كيفية ظهور هذه التطورات من منظور جغرافي وسياق تاريخي محدد.

من خلال دراسة تاريخ التفاعلات الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية بين الثقافات ورسم التطورات المقابلة في تاريخ الغذاء، تتحدى بعض الأفكار والمعلومات الواردة في هذا الكتاب افتراضات القراء حول ماذا وكيف أكل الناس، مما يُقدِّم وجهات نظر جديدة للتطورات التاريخية المعروفة. وربما كان محتوى هذا الجهد المتواضع هو لبنةٌ أولى على طريق فهم العلاقة بين الطعام والتاريخ الاجتماعي والثقافي للإنسانية عمومًا ولمنطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص.

نتكلّم هنا عن «الطعام.. تاريخ عائلي»، و«طعام الأجداد»، والرحلة «من الصيد إلى جمع الثمار»، و«سِحر زيت الزيتون»، ونحكي عن «أسواق السماكين والدجاجين والغلال.. ودار التفاح» في عصر سلاطين المماليك، ونستعرض «100 أكلة وأكلة.. ثقافة التذوق»، و«الأسمطة السلطانية في العصر المملوكي»، و«سيرة مطاعم القاهرة»، ونتوقف عند رحلات «ابن بطوطة.. بين المانجو المملحة ولحم الخيول»، ونشرح فلسفة «الأكل بالأصابع.. هدم المسافات»، و«دبلوماسية الطعام.. المعدة والسلام!»، ونستقرئ في التاريخ ملامح «الإسراف والمبالغة.. من الأفراح إلى الموائد»، وندلف إلى «داخل المطبخ: طعام فاروق المفضَّل»، ونروي حكاية «رغيف العيش.. رحلة البلدي والبتاو والمرحرح»، و«محشي وجمبري وبطيخ.. طعام الرؤساء»، و«موكب البقلاوة.. وعقوبة «أم علي»، و«التين الشوكي.. عمر قصير ورزق وفير»، و«طازج.. العودة إلى البدائية».

نتطلع أيضًا إلى «صورة المستقبل.. دليل المواقع ووصفات التطبيقات»، ونتناول «عشاء مع داروين»، ونتطرّق إلى «المقاهي.. مدارس المعرفة»، ونزور التاريخ لنعرف كيف أصبحت «الملوخية.. طعام الملوك»، ونتساءل: «من الذي ابتكر الكشري؟»، و«ما هو أصل الحواوشي»؟، ونعلنها: «من المسقعة إلى بابا غنوج.. فتنة الباذنجان»، و«فتش عن الفتة»، و«السمبوسك.. المثلث الذهبي» و«الحمص والمنسف والبيتزا.. صراع هويات».

ونسرد قطوفًا من «الأطعمة الفاخرة والولائم العامرة»، و«بيلاف ودولمة.. أسرار المطبخ العثماني» و«أغرب الأكلات المصرية»، ونعرِّج على «الفول.. حبيب الشعب»، و«الفلافل.. كباب الفقراء»، و«الشاورما.. اللذة على السيخ!»، و«المسمط.. معقل الأكلات «الحِرشة»!».

ونجلس «على مائدة نجيب محفوظ»، ونكتشف أن «الإفطار فتة.. والعشاء «تقاطيع»، في عيد الأضحى المبارك عند المصريين، ونسترشد بكتب التاريخ والفقه للتعرُّف على «طعام النبي»، ولا يفوتنا أن نتقاسم شطرًا من «نزهة القلوب في الطعام المكتوب»، و«ولائم الشاشة»، مع التحذير من «بلاغ اختفاء.. طعام مهدَّد بالاندثار».

مائدة الطعام ليست هامشًا؛ هي متنٌ عميقٌ وأصيلٌ للحُبِّ والأمان.

اقرأ، وتذوق، وخُذ الوقت الكافي لتذوق كل قضمة.

أتمنى لكم قراءة تجمع بين الفائدة والمتعة.

----------------

من مقدمة كتابي:

ثورة المائدة: تاريخ عائلي للطعام، دار المحرر، 2025.


ردود

Name

إعلام,20,الحكواتي,244,المحروسة,304,بشر,150,رياضة,106,سينما,13,مؤلفات ياسر ثابت,103,مروج الذهب,171,مساخر,51,وطني الأكبر,28,
ltr
item
قبل الطوفان: ثورة المائدة: تاريخ عائلي للطعام
ثورة المائدة: تاريخ عائلي للطعام
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEhtN2ac4PUIlD52jX4aAuo9yYEFPL0ec3RIer9x5uUtKAItP4Ebyajt9ZpXPvUQvDfVph9UNT3EK74J9TRip14l1JnRjTO8dKuLB5T1cLjPlxyls1ZFfhiYQe1O2EdcCqMbIjPfBF7Qm178ptqxYBP1xOucfcjzBgp1eVl_cJhMew8TSVMOpLNF4RjQ5Rdi/w442-h640/%D8%BA%D9%84%D8%A7%D9%81%20-%20%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%A6%D8%AF%D8%A9.jpg
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEhtN2ac4PUIlD52jX4aAuo9yYEFPL0ec3RIer9x5uUtKAItP4Ebyajt9ZpXPvUQvDfVph9UNT3EK74J9TRip14l1JnRjTO8dKuLB5T1cLjPlxyls1ZFfhiYQe1O2EdcCqMbIjPfBF7Qm178ptqxYBP1xOucfcjzBgp1eVl_cJhMew8TSVMOpLNF4RjQ5Rdi/s72-w442-c-h640/%D8%BA%D9%84%D8%A7%D9%81%20-%20%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%A6%D8%AF%D8%A9.jpg
قبل الطوفان
https://yasser-best.blogspot.com/2025/02/blog-post_10.html
https://yasser-best.blogspot.com/
https://yasser-best.blogspot.com/
https://yasser-best.blogspot.com/2025/02/blog-post_10.html
true
5099734155506698511
UTF-8
تحميل كل الموضوعات ليس هناك أي موضوع مشاهدة الكل تابع القراءة تعليق مسح التعليق حذف الناشر الرئيسية الصفحات الموضوعات مشاهدة الكل اقرأ أيضا قسم أرشيف ابحث كل الموضوعات لم يتم إيجاد موضوع يطابق بحثك عودة إلى الرئيسية الأحد الاثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت الأحد الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت جانفي فيفري مارس أفريل ماي جوان جويلية أوت سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر جانفي فيفري مارس أفريل ماي جوان جويلية أوت سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر اللحظة قبل دقيقة $$1$$ قبل دقيقة قبل ساعة $$1$$ قبل ساعة أمس $$1$$ قبل يوم $$1$$ قبل أسبوع قبل أكثر من 5 أسابيع متابعون تابع محتوى مشروط اضغط لفك التشفير انسخ الكود ظلّل الكود تم نسخ الكود في الكيوبرد لم يتم نسخ الكود/ النص, اضغط [CTRL]+[C] (or CMD+C with Mac) للنسخ