هذا كتابٌ عن التاريخ تحت مظلة الوطن. والوطن هنا هو مصر، وفي القلب منه القاهرة، التي تمتلك تاريخًا فريدًا وثريًّا، كلما نهلنا من نبعه ازددن...
هذا كتابٌ عن التاريخ تحت مظلة الوطن.
والوطن هنا هو مصر، وفي القلب منه القاهرة، التي تمتلك تاريخًا
فريدًا وثريًّا، كلما نهلنا من نبعه ازددنا عطشًا. لا عجب، إذن، أن المصريين،
وخصوصًا في المحافظات والأقاليم، يشيرون إلى القاهرة باستخدام كلمة مصر. إنها
علامة على الهيمنة.
إن القاهرة هي أدق تفاسير الإنسانية لرصد تطور الحضارات
وصراعاتها الرهيبة، وهي أيضًا وسيلة مثالية لمعرفة ما جرى في هذه الحاضرة على
اختلاف مسمياتها ومكوناتها من الأعراق والجماعات والأفكار والمذاهب والطوائف.
في عصور مختلفة، وخصوصًا في العصور الوسطى وعصر النهضة، بدت
القاهرة مدينة صناعية معولمة بمثل ما هي مدينة للسكنى، وكانت بثروتها من العمارة
الفخمة المترفة والأسواق والوكالات وشبكتها التجارية والدبلوماسية العالمية، توصف
بأنها أكبر مدينةٍ في العالم، حتى أثار سحرها الخاص اهتمام القاصي والداني.
تنبض القاهرة بالحياة، في عادات سكانها وأعيادهم واحتفالاتهم
بالمناسبات المختلفة، وفي مواكب الزفاف وطقوسه، والأمسيات في المقاهي، وفي حلقات
الذِّكر والدروايش، وفي رقص الغوازي وغناء العوالم، وفي المطاعم والمسارح، وفي
الشوارع التي قدَّر علي مبارك في خططه عددها بقرابة 1290 شارعًا، وفي الأحياء التي
تتجاور فيها علامات الثراء والفقر ويتصالح فيها المقيمون والوافدون.
وفي كل قراءةٍ متأنية، يساهم موكب تطور القاهرة في تأصيل هويتها
ذات الوجوه المتعددة. ربما يلاحظ البعض تناقضات القاهرة الحديثة، لكنها مدينة يصعب
ألا تقع في غرامها، فهي كما وصفها الرحالة ابن بطوطة في كتابه «تحفة النظار في غرائب الأمصار
وعجائب الأسفار»:
«هي أم
البلاد وقرارة فرعون ذي الأوتاد.. محط رحل الضعيف والقادر، وبها ما شئت من عالم
وجاهل، وجاد وهازل، وحليم وسفيه، ووضيع ونبيه، وشريف ومشروف، ومنكر ومعروف» (ص
54).
وإذا شئنا المصارحة، فإن كثيرًا مما ورد في هذا الكتاب ينتمي
إلى الأحداث التي لم تُدوَّن على نحو كافٍ ووافٍ من جهة، وإلى ما يطلق عليه
اصطلاحًا التاريخ السائل، أي التاريخ الذي يتشكل أمام أنظارنا، وتصهره الأيام حتى
يستقر الرأي على تصنيفه تاريخًا.
والتاريخ هنا هو تاريخ اجتماعي واقتصادي وسياسي وصحي، وكل ذلك
كما أسلفنا تحت مظلة اسم مصر.
ومصر وطنٌ يتخطى الأديان والأعراق والانتماءات، ويتجاوز
التصنيفات والتقسيمات، وهو البلد الوحيد الذي يعاد اكتشافه يوميًّا والكشف عن
مزيدٍ من آثاره وأسراره يوميًّا، فيمنح العالم فرصة لإعادة كتاب تاريخ الخليقة،
كما لو أنه يتحدّى الجميع قائلًا: الأقدم هو الأحدث.
في القاهرة، التي استحقت اسمها بكل المقاييس ومختلف التأويلات،
نحاول استقراء تاريخنا وتمثلاته الثقافية والفكرية والاجتماعية، مع رصد التطور
المعماري والعمراني، عسانا نفهم المدينة التي تجمع بين كونها قصة التاريخ الإنساني
وصورة النقيض التي تجمع بين العشوائيات تارة والمجتمعات المسوّرة تارة أخرى ومأوى
النازحين واللاجئين والمغتربين على حدٍّ سواء.
ربما جاز
القول إننا نولي أهمّية خاصة لكل من الأسلوب والوضوح والدقّة في الكتابة البحثية
والتاريخية، مع بناء التاريخ على الأدلّة المتاحة، والإيمان بعدم وجود مناطق
محرّمة على التاريخ.
الفكرة الناظمة للكتاب هي البحث عن ملامح تائهة أو غائبة لتاريخ
مصر وجغرافية العاصمة (الفسطاط/ العسكر/ القطائع/ القاهرة). والقاهرة هنا
تشمل القاهرة المعزية وقاهرة صلاح الدين وقاهرة المماليك والقاهرة في عهد
العثمانيين فضلًا عن القاهرة في القرنين التاسع عشر والعشرين. والشاهد أنها جميعًا
تقع ما بين شاطئ النيل الشرقي وتلال المقطم، وكان طبيعيًّا أن تلي الواحدة الأخرى
ناحية الشمال، أو بعبارة أخرى أن يكون نمو القاهرة وامتدادها من الجنوب إلى
الشمال.
تناولنا عاصمة البلاد وحاضرة المُلك
ومركز السيادة، في «القطائع.. مدينة الأحلام»، و«أحاديث الجوى»، و«القاهرة
التي اختفت»، و«كوكب
القاهرة.. مدينة بروحين». ولعلنا ننوه هنا أن مصر بريفها وحضرها، وبشواطئها
وصحاريها، إنما هي واحة خصبة وغنية وسط قارة كان معظمها حتى ذلك الوقت مجهولًا أو
موحشًا أو متخلفًا، فمن البدهي أن تكون مصر مسرحًا لعملية اختلاط سلالي ممتدة
وهائلة، وأن تكون لهذه العملية آثار فيزيقية (جسمانية) ونفسية واجتماعية في الوقت
نفسه.
وتكلمنا عن التطور المعماري والعمراني والمائي
للقاهرة في «عمارة
الأثرياء»، و«المماليك..
البناؤون العظام»، و«إصلاح ما خرّبه الفرنسيس» و«مقياس
النيل.. بين حلوان والروضة»، و«كومباوندات وعشوائيات.. تحديات المستقبل».
نقف أيضًا عند محطات
فاصلة، في فصول مثل «أسوأ خطة عسكرية في التاريخ»، و««القاهرة
1921».. جَمل تشرشل وكبرياؤه!».
ونستعرض حكايات عن المحظوظين
وغيرهم في «لم
يُصبه العرش!»، و«أولاد الناس.. في زمن المماليك»،
و«عندما يحكم العيال»، و«خمارويه.. ومن الترف ما قتل».
ونتجول في أرجاء «ساعة
الحظ في الأزبكية!»،
و«أسرار جمهورية شبرا»،
و«بِركة
الفيل.. أجمل متنزهات القاهرة»
و«زقاق القناديل.. شارع
الأشراف».
ولا بأس من فتح ملفات «قاهرة النصارى»، و«أمن المدينة.. بين الأغا والوالي»،
و«من
المماليك إلى العثمانيين.. تاريخ الفساد»، و«طوائف وحِرف» و«القاهرة
السينمائية: تجاعيد مدينة»، و«نفوذ
الشوام» و«الأجانب..
تجّار وصُنّاع ومحتكرون».
ولعل من أهم فصول الكتاب تلك التي تتناول «بيمارستانات مصر»، و«صعود الطب وانهياره»،
لما للطب والتداوي من ارتباط بحياة أهل المحروسة.
متون الكتاب مفتوحة على حقول معرفية أخرى كالتاريخ والسياسة
والاجتماع والدبلوماسية والحضارة والأنثروبولوجيا والرحلة وغيرها، مما قد يمنح
الكتاب قيمته المعرفية.
أما الإطار الزمني، فهو مفتوح القوسين؛ إذ نعرِّج على تاريخ مصر
في قرون وحقب وعصور متعددة، لنحاول فهم تأثير التاريخ والصراعات في تطور القاهرة
وغيرها من المدن ومنشآتها والأدوار التي لعبتها هذه العوامل المتشابكة في تشكيل
ملامح مصر عبر التاريخ.
كُلنا أملٌ في أن يجد القارئ في هذا الكتاب فصلًا أو موضوعًا
يستهويه وينال من اهتمامه، بما يفتح أمامه بابًا للقراءة والاستزادة
أتمنى
لكم قراءة تجمع بين الفائدة والمتعة.
-----------------
من مقدمة كتابي:
تاريخ كوكب القاهرة، دار المحرر، 2025.
ردود