حياة جميلة مرت بجانبنا

  عن الحياة الجميلة التي مرَّت بجانبنا، نتحدَّث. نقتفي أثر خُطى النثر الرشيقة وإيماءاته الغزيرة. نحكي عن هؤلاء الذين التقيناهم ورأيناهم،...

 

عن الحياة الجميلة التي مرَّت بجانبنا، نتحدَّث.

نقتفي أثر خُطى النثر الرشيقة وإيماءاته الغزيرة.

نحكي عن هؤلاء الذين التقيناهم ورأيناهم، في بحر الوجود الرائع، وتذوقنا عطاءهم الذي أفلت كنغمةٍ من ثقب الناي.

عن الذين غيَّبهم الضوء، وأولئك الذين صاروا نفحة الأبدية والقنديل الحُرّ للزمن.

يشبه الأمر الآن انخطافة بالزمن!

حين حزم الوقتُ حقائبه، عشنا مقامَ اللوعة واللهفة على من أخذ هلالُ عتمتهم يتكشّفُ ببطء، سالبًا منا ومنهم أريج الشباب الأبدي.

بعضهم كان أيقونة الكوميديا والمرح. بعضهم الآخر كان بطل العالم في رياضة كمال الأحزان!

بعضهم أجاد القفز على حواجز الخذلان، والسباحة ضد كل التيارات. بعضهم الآخر تبنى الانكسار كقطٍ أليف، وصار أسطوانة للغبار في بيتٍ قديم!

إلا أن قائمة اختياراتنا في هذا الكتاب ضمت في الغالب الأعم ممثلين ومخرجين وملحنين ومطربين، أهدونا بأعمالهم شهية مفتوحة للحياة.

نادية لطفي، سعاد حسني، عبلة كامل، شويكار، شريهان، مديحة كامل، رجاء حسين، إنعام سالوسة، عالية حسين، أوليفيا نيوتن-جون، سزاريا إيفورا، بيتي كارتر.

زكي رستم، أحمد زكي، عاطف الطيب، محمود عبد العزيز، فريد شوقي، فؤاد المهندس، سمير غانم، جورج سيدهم، محمود شكوكو، محمود ياسين، فاروق الفيشاوي، هشام سليم، ممدوح عبد العليم، صلاح السعدني، راجح داود، حلمي بكر، عصام عبد الله، عبد الرحيم منصور، أحمد الحجار، ناظم الغزالي، إيدير، لوران تيرزيف، بول أوستر.

ونستذكر أشهر روائيي القرن العشرين، الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، أستاذ الواقعية السحرية، الذي أهدانا الدهشة في عالم يتسم بالغرائبية، ونجح في أن يصبح صوت أميركا اللاتينية، وربما الإنسانية، عبر أعماله الفذة.

في خطٍ مواز، كان لا بدَّ أن نتذكر صلاح جاهين، صانع البهجة الذي مات مكتئبًا. مبدعٌ فذ احتفظ بقدرته على إدهاشنا في مختلف المجالات التي تألق فيها كاتبًا وشاعرًا ورسامًا.. وممثلًا.

هؤلاء وغيرهم نجوم من مختلف الفنون والمشارب، ارتدوا خواتم تزينها فصوص المجد، حتى رافقوا أيامنا، وعلّقنا صورهم على جدران قلوبنا، وكتبنا أسماءهم على زجاج نوافذنا، وحلمنا بأن يزورونا في الصباح وفي حقائبهم أسرار قوس قزح.

مبدعون هربوا من المتن المتحجر، وخليط من الأماني المخذولة، ومن رغبات الحب المذبوح، وانطلقوا رافعين راية العطاء الجميل المدهش، المتوثب دائمًا نحو الحرية والمغامرة وإعادة اكتشاف الذات.

هنا، بقوس الشغف وسهام الإعجاب، نحاول تأطير الحياة؛ إذ نعيد اكتشافهم، واكتشاف أنفسنا أيضًا، عبر رحلة مغايرة تلتقط تفاصيل في حياتهم وإبداعاتهم تستحق التوقف عندها وتأملها بإمعان. ما قيمة العيش حين يذوي الفضول وتتلاشى الرغبة الحارقة بالاكتشافات؟

الفضول هو مدرّب شد العضلات الفعّال إلى الأبد.

حان الوقت، إذن، لمسح الغبار عن اللوحة المزدانة بكمال التناغم.

يفتحُ بعضهم نافذة في الجدار الهائل الذي يُطوِّق العالم ويُعيدُ لكل شيء بريقًا لا يخبو. وينجحُ البعضُ الآخر في تمجيد ظلال الأجساد المراهقة. فريقٌ آخر منحنا المتعة الصافية، حتى تناثرت منا شظايا الضحك الطويل.

ثمة حميمية في القصص الإنسانية، في زمن انمحتْ فيه الحكايات الجميلة بعد أن قتلها الكلام المُرسَل، والثغاء اليومي المنمَّق لإنسان العصر، واللغو المثقّف، والثرثرة المتبجّحة الرائجة.

وسطور هذا الكتاب تجربة للتذكر، حتى لا تجرح الأيامُ خطانا، وربما كانت محاولةً للنجاة من فخاخ العاطفة. كلماتٌ من العزاء والسلوى غُمِدت في طيات القلب الصامت المكسور، علّها تهزمُ ندمَ المرآة. همساتٌ في الأذن الزجاجية للأبدية بآهةِ الجوهر. ذلك أن الخارق لا يُقاس بالزمن، ونحن وقعنا أسرى هذه الشخصيات الساحرة والأطياف الفاتنة، التي هي جزءٌ من الفردوس وقطعةٌ من الجحيم!

نوعٌ من العرفان لعطاءات هؤلاء الذين يشهقون في دمائنا، ولما قدّموه إلى الفن والدراما ولإغنائهم الوسط الفني بمعرفة لا تنضب وثقافة لا تمّحى. يكفي أنهم أبناء حكاياتٍ عنوانُها الأبرز في رأيي: الخالي من التناقضات هو إنسانٌ ممتلئ باليأس. ربما كانت التناقضات دليلًا على الثراء.

لا شيء يُوازي هدوئي الآن، وأنا أعبر كلّ الوجوه كرصاصة بريئة وأحكي عن هؤلاء الذين ملأوا سلتي باللآلئ والدموع. أستلُّ الحكاياتِ من رأسي كَخيوطِ الصوفِ، وأدفع بها إليكم كصبي نزق، من دون وعودٍ مني بأن تكون النهايات لطيفة تُغيِّر مزاجَ النَّهار.

هذه الصور والحكايات هي فيلمٌ روائي في دار عرض لا تتسع إلا لمقعدين: أنا.. وأنتم!

التذكر هو مَمرُّنا الإجباريُّ إلى النَّجاة.

وإذا كانت الحياة ترحالًا في غابات غامضة، كل غابةٍ تُحيلك إلى أخرى، فإنك بإدراكك وغريزتك تشعر في كل مرة بمدى المهابة الروحانية أو الغموض، منذ بداية الدخول إلى عرين الغابة المُحتشدِ بالهَواجس والأسْرارِ وصولًا إلى المحطة النهائية، في التهامها الشفيف لكل ما سبق.

وهذه بالضبط تجاربنا الإنسانية مع من نعرفهم ونحبهم.. أو نبغضهم!

لستُ أدري أيّ مجازٍ سلكتُ، لكني طهوتُ الوقت والأشباح، وكتبتُ عن وجوهٍ أحببتها وأرواحٍ شعرتُ بالألفة معها. كانوا مثل فراشاتٍ كبيرة تكشف أسرار الربيع. رأيتهم دومًا وهم يعيشون -ويموتون- حاملين شعلتهم الخاصة في أيديهم عاليًا. حكاياتهم لحظات مسروقة من فم الأوجاع، وألف قصة وغصّة تُروى.

 مع هؤلاء، وجدتُ الموت طفلًا يلهو وحيدًا في فُسحة من الفراغ.

وفي غيابهم، اكتشفت أن للفقد قائمة تطول.

في هذه السطور قيامةٌ معكوسة، لكنها متدفقة، لعددٍ من الوجوه التي اتسمت بتوليفةٍ خاصة من الجاذبية والتلقائية والموهبة.

هكذا أعيدُ للغيابِ ما نقصهُ، فتكتمل دائرة القلب الممزقة.

أتمنى لكم قراءة تجمع بين الفائدة والمتعة.

من مقدمة كتابي: حياة جميلةمرت بجانبنا، دار زين، القاهرة، 2024