سينما النهايات الخالدة

  السينما، الخواتم الأجمل في أصابعنا. ربما كانت استعادة حكايات التاريخ السينمائي والتليفزيوني فرصة لتأمل أكثر عمقًا لأداء عدد من نجوم التم...


 


السينما، الخواتم الأجمل في أصابعنا.

ربما كانت استعادة حكايات التاريخ السينمائي والتليفزيوني فرصة لتأمل أكثر عمقًا لأداء عدد من نجوم التمثيل والدراما الذين نعيش معهم عمرًا إضافيًا وطفولةً ثانية وشبابًا جديدًا.

السينما هي تقريب الصورة وجسر المسافات، وهي التي ترسم فورة الشباب وتجاعيد البعاد، وتجعلك تجرب النشوة حتى لو كنت حكيمًا متقاعدًا.

إنها السر الممتد في فم الزمان، حتى آخر نَفَس.

ولأنها باب الضوء في عتمة دور العرض، فإننا نشاهد ونتأثر. نحزن ونستمتع، نغضب ونضحك، نفكر ونتسلى.

الشاشة الغارقة في الشفافية، مضاءة بالحكايات عن الأوطان والمنافي، البيوت والمعازل، الاسترخاء والانصهار. فيها نستعيد الذكريات ونستنهض الرغبة، حتى تنحني الأرض على نفسها ويحنو البشر على بعضهم بعضًا.

ليس البريق خرافة. إنه الحنين القادم إليك من شاشة العرض، والتوجس الذي تزرعه نظرة الممثل، والحماسة التي تنجبها حركة قتالية، والشهقة التي تلدها مغامرة خارقة. في كل شيء، يتغلغل الأداء فينا، تاركًا أثر سُخونةٍ في حُمَّى أيدينا وقلوبنا.

أثرُ الأفلام عميقٌ ودائم في الروح والذاكرة، حتى أنه يمكن وصف السينما بأنها صانعة النهايات الخالدة.

والسينما هي الغابة التي حلمنا بها طويلًا، بكل ما فيها من تفاصيل تجعلنا نسير في أرجائها مأخوذين. أما التمثيل البارع، فهو الذي يعرِفُ كيف يُشكِّلُنا، ويأخذ منا حياءنا وخجلنا أويبث في أرواحنا كثيرًا من الشوق أو قليلًا من السعادة.

إن أهمية السينما تكمن في دورها كوسيلة إعلامية تُسلِّط الضوء على قضايا المجتمع وتنقل صوته بموضوعية أكبر من وسائل الإعلام المقيدة بسياسات وأنظمة صارمة. وليس خافيًا على أحد الدور الفعال والمؤثر الذي تلعبه السينما في توجيه الأفراد والمجتمعات، من خلال ما تُحدِثه من تأثير في توجهاتهم إزاء مختلف القضايا؛ فبالنظر إلى أن المُشاهِد يتخذ من بطل العمل الفني نموذجًا يُحتذى به، فإنه يتأثر بشكل كبير بسلوكياته وقيمه، وهنا تبرز أهمية التطرق إلى نظرية «الغرس الثقافي» (The Cultivation Theory) لـجورج غيربنر (George Gerbner)، والتي تتناول عمق تأثير السينما على التنشئة الاجتماعية للأفراد، وتفترض أن مشاهدة الأشخاص للتلفاز لساعات طويلة تجعلهم أكثر عُرضة للتأثُّر بالرسائل الإعلامية التي تتضمنها محتويات الأعمال الفنية، الأمر الذي ينعكس بدوره على تصورهم للعالم الخارجي؛ حيث يُنمي لديهم قيمًا ومعتقدات ورغبات محددة، تُشكِّل سلوكياتهم وتصرفاتهم بشكل لا إرادي.

يقول الناقد السينمائي المغربي سليمان الحقيوي في كتابه «أسئلة السينما المعلَّقة» (دار رؤية، القاهرة، 2023) إن «الشعور بتفوق الصورة وقدرتها التعبيرية هو شعور قديم عرفته الحضارات القديمة، فوضع العلامات فوق رايات الحرب كانت تحمل إشارات بسيطة لكن دلالاتها كانت تحقق النصر في معارك مصيرية، وتحسم مصائر بلدان بأكملها، وتختزل كثيرًا من الكلام والوقت والسرعة في التنفيذ. إن تفوق لغة السينما وخطاب الصورة بمقارنته باللغة العادية قد يبدو غير منصف».

والكتاب الذي بين أيدينا هو محاولة متواضعة لإضاءة جوانب من تاريخ السينما العربية والتعريف بها وبأعلامها ومن شاركوا في صناعتها والتوعية بهم.

لقد باتت التجارب السينمائية العربية تحتل مكانة مركزية داخل النسيج الاجتماعي، والأفلام المنتجة عربيًا اليوم في عدد من البلدان ليست ترفيهية تشاهد قبل النوم، وإنما فيلموغرافيا مميزة يتنافس فيها مخرجون مبدعون على أكبر الجوائز في العالم.

لقد أدركت السينما العربية مأساة الواقع الذي تعيش فيه فعملت في الألفية الثالثة على تكثيف مقاربتها للواقع، لذلك تطالعنا سنويًا أفلام موغلة في الواقع بمختلف أفراحه وأحزانه ونتوءاته. إنها سينما تضمر أكثر مما تظهر، فهي تتعامل مع الواقع بطريقة تخييلية ومبتكرة، وبقدر ما تنتمي إليه على المستوى الفكري تتطلع بعنفوان صوب عالم متخيل.

في هذه الملحمة التي تسطِّر أسرار أيامنا وتؤرخ للانتصارات والانكسارات الكبيرة والصغيرة، تغيب الأرض في طفولتها، وتتركنا نشيخ في الحلم أو أمام فيلم سرق شعلةً مقدسة.

حتى الموسيقى التصويرية، تصبح النمل الزاحف في أوردتنا، والشعور الذي يحرضنا على عبور الهزائم ويعدنا بأن النهار سيطلع مهما طال الظلام.

ولأن السينما أحبتنا وجرحتنا معًا، فقد وقعنا في غرامها وعشنا دائمًا في رحابها طفولةً ثانية.

هي الغواية والشغف، والفضول والدهشة. في صورها المقربة وجوه تتأمل وتضحك وتحزن، وفي صورها البانورامية تهدر الأنهار المطيعة والعاصية.

السينما هي المجد والانكسارات، وتصطاد لحظة المعنى. أبطالها -كما الضحايا- يجيدون عدَّ الأوهام على أصابعهم وغمسها بالقناعات. على شريط الفيلم، ترى ما يراه التَّائهون، ويحلم بما يحلم به الطامحون.

ولعل ما يشغل الباحث الفني والمخرج على حد سواء هو مدى تحقق الشعرية داخل العمل السينمائي. إن أعمال لويس بونويل وأندريه تاركوفسكي وعباس كياروستامي وبازوليني وغودار وبرتولوتشي وباراغانوف، وآخرين، على اختلاف أساليب مخرجيها، تتدفق بالشاعرية. إنها لا تتخذ الشعر قاعدة لها أو منطلقًا لتشكل العمل السينمائي، إنما تجعل المتلقي مفتونًا ومنجذبًا إلى هذا العمل من معابر جمالية بالأساس. وليست اللغة وحدها هي آلية اختبار الشعرية، بل إن الصورة السينمائية كفيلة بترجمة المرجعيات الجمالية التي تتشكل في ذهن المخرج. يقول ألفريد هتشكوك: «الفيلم الجيد هو الذي إن حُذِف شريط الصوت بالكامل يظل المشاهد مستمتعًا به».

يسعى هذا النوع من الأعمال السينمائية إلى خلق جمالياته الخاصة، التي قد تشوش على المتلقي الخامل الذي يتوقع تَحقُق المنطق، وينتظر نهاية حاسمة في آخر كل فيلم. إننا أمام سينما تُراهن على تعدد القراءات، وتؤمن في حق الجمهور في الاختلاف، وفي عدم الوصول بالضرورة إلى المناطق التي ينشدها المخرج، بل تجاوزه أحيانًا أو في الأقل الانحراف عن التمثلات التي ينتظرها من جمهوره.

لقد غدت السينما تمتلك إغراءً خاصًا من خلال قدرتها على جذب المفكرين والفلاسفة وجعلها موضوعًا للتفكير. ويُصنِّف الفيلسوف الفرنسي دولوز كبار السينمائيين في خانة الفلاسفة، وبكلماته: «إن كبار المؤلفين السينمائيين مثل الرسامين الكبار أو الموسيقيين الكبار: إنهم أفضل من يمكنهم الحديث عما يفعلون. ولكنهم حين يتحدّثون، يصيرون شيئا آخر. يصيرون فلاسفة أو منظّرين».

في سطور هذا الكتاب، تلتقون وجهًا لوجه مع التاريخ والأسماء والأفلام الفارقة، من السينما الفلسطينية والسودانية، إلى قضايا السينما قبل ثورة 23 يوليو 1952 وبعدها، والطفولة في السينما المصرية، وفن المونتاج، برؤية أقرب ما تكون إلى الموضوعية والتوثيق. ثمة أيضًا قراءات في محطات علامات في عالم التمثيل والإخراج والموسيقى التصويرية عربيًا وأجنبيًا، من عينة شادية، ومارتن سكورسيزي، وستانلي كوبريك، وجان لوك غودار، وجوزيبي تورناتوري وليف أولمن.

يمكنكم في هذا الكتاب دخول عوالم جديدة، مثل: «أفلام أنقذت المسيرة المهنية لأبطالها»، و«الروائع التي هزمها شباك التذاكر»، و«المكروهون في السينما والتليفزيون»، و«صدامات النجوم في مواقع التصوير» و«ممنوع من العرض».

مع كل سطرٍ في هذا الكتاب قد تطالعون جديدًا، وتسافرون في رحلة سينمائية بامتياز.

أتمنى لكم قراءة تجمع بين الفائدة والمتعة.


من مقدمة كتابي سينما النهايات الخالدة، دار اكتب، القاهرة، 2024

ردود

Name

إعلام,20,الحكواتي,244,المحروسة,304,بشر,150,رياضة,106,سينما,13,مؤلفات ياسر ثابت,103,مروج الذهب,171,مساخر,51,وطني الأكبر,28,
ltr
item
قبل الطوفان: سينما النهايات الخالدة
سينما النهايات الخالدة
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEgUMn0Ub6to-xibxqnmTgeEuneKbCQFpWtkof5BjSQqSevmspSiw3JdtWoh3HjycYlH5Lqom2ynS4gHpK9f8k5zuVhDgFC7A6t6th4h2MAAMt3UygDAVMnNdy-6eWqEU4cxyQA2uwp74P1ViC7rXvStXIJgR_1gq2bWZaOoR7p-A5HgvO8YX50W8tJvimHU/w284-h400/%D8%B3%D9%8A%D9%86%D9%85%D8%A7%20%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%87%D8%A7%D9%8A%D8%A7%D8%AA%20%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%A9.jpg
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEgUMn0Ub6to-xibxqnmTgeEuneKbCQFpWtkof5BjSQqSevmspSiw3JdtWoh3HjycYlH5Lqom2ynS4gHpK9f8k5zuVhDgFC7A6t6th4h2MAAMt3UygDAVMnNdy-6eWqEU4cxyQA2uwp74P1ViC7rXvStXIJgR_1gq2bWZaOoR7p-A5HgvO8YX50W8tJvimHU/s72-w284-c-h400/%D8%B3%D9%8A%D9%86%D9%85%D8%A7%20%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%87%D8%A7%D9%8A%D8%A7%D8%AA%20%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%A9.jpg
قبل الطوفان
https://yasser-best.blogspot.com/2024/10/blog-post_4.html
https://yasser-best.blogspot.com/
https://yasser-best.blogspot.com/
https://yasser-best.blogspot.com/2024/10/blog-post_4.html
true
5099734155506698511
UTF-8
تحميل كل الموضوعات ليس هناك أي موضوع مشاهدة الكل تابع القراءة تعليق مسح التعليق حذف الناشر الرئيسية الصفحات الموضوعات مشاهدة الكل اقرأ أيضا قسم أرشيف ابحث كل الموضوعات لم يتم إيجاد موضوع يطابق بحثك عودة إلى الرئيسية الأحد الاثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت الأحد الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت جانفي فيفري مارس أفريل ماي جوان جويلية أوت سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر جانفي فيفري مارس أفريل ماي جوان جويلية أوت سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر اللحظة قبل دقيقة $$1$$ قبل دقيقة قبل ساعة $$1$$ قبل ساعة أمس $$1$$ قبل يوم $$1$$ قبل أسبوع قبل أكثر من 5 أسابيع متابعون تابع محتوى مشروط اضغط لفك التشفير انسخ الكود ظلّل الكود تم نسخ الكود في الكيوبرد لم يتم نسخ الكود/ النص, اضغط [CTRL]+[C] (or CMD+C with Mac) للنسخ