برتقال وأشواك: أدب برائحة البارود

        يمتحنُ الناقد ُ إجاباته، ولا يعفيها من التأمل. ولأن الباحث يكتب النار في رحلته لحفظ أرشيف الزمن، فإن احتراقه مسألة وقت، أ...

 

 

 



 

يمتحنُ الناقدُ إجاباته، ولا يعفيها من التأمل.

ولأن الباحث يكتب النار في رحلته لحفظ أرشيف الزمن، فإن احتراقه مسألة وقت، أو حظ في أحسن الأحوال. 

الشاهد أن القصة والرواية مرَّتا في العقود الأخيرة بتحولاتٍ عميقة تدعمها ما أحرزته تلك الأشكال من مكتسبات فنية حديثة بفعل التلاقح بين الثقافات الأجنبية من جهة، والتفاعل بين الأجناس والأنواع المتجاورة من جهة أخرى. هكذا بدأنا نتعرف إلى بنى جديدة في الكتابة الشعرية والقصصية، ونختبر طرائق جديدة في السرد، تبتعد عن المألوف والتقليدي، لتقترب من التفكيك والتشظي وفق حساسية جديدة

ومن المأمول أن يكون حُسْن اختيار الروايات المدروسة، وتعدّد مستويات الدرس، والجمع بين روايات عربية وعالمية، وإدخال الخاص في العام، ممّا يمنح الكتاب قيمته، فيجمع بين فائدة الماهية ومتعة الكيفية.

الرواية التي تعنينا هنا هي تلك التي تُجسِّد الشراكة في إنتاج المعنى. أنت في تلقيك للفن الحقيقي لست شهريار الذي يتسلى بالحواديت، وإنما أنت مطالبٌ بمحاورة ما تتلقاه، وتقريبًا أنت المسؤول الوحيد عما يصل إليك منه. أما الروايات السائدة فهي عادةً -وللأسف الشديد- تُعفينا من هذه المسؤولية.

ينقسم الكتاب إلى فصول وأبواب، أولها تحت عنوان «برتقال وأشواك.. فلسطين وإسرائيل»، وهو موضوعٌ نرى أن تناوله واجب الوقت لاعتباراتٍ أدبية إنسانية ووطنية.

في هذا الفصل عناوين لافتة، منها: «غسان كنفاني.. والأدب المقاوم، و«معين بسيسو.. أدب القفز بالمظلات»، و«صورة العربي في المسرح الإسرائيلي»، و«صورة اليهودي في الأدب العربي الحديث»، و«ترجمة الأدب العبري.. الصخب والحصاد».

يضم الكتاب رثاءً من القلب للشاعر الراحل محمود درويش الذي لن يغادرنا، بعد أن استحقت تجربته أن تُخلّد، وذلك كما يقولون «حظ المهارة إذ تجتهد». إن درويش نموذجٌ فذ للشاعر الذي ينأى بنفسه عن الحشود المستلبة، لينظم قصائد مزهوة بحياتها الخاصة، قادرة على مساعدة القارئ أو المستمع على الإفلات من الاختناق، وإسقاط الأقنعة، وإيقاظ الضمائر وإدراك أعمق معاني الوجود.

يرتحل هذا الفصل بين أضلاع ثلاثية: المقاومة، والسياسة، والإبداع.. معها يتحوّل الخوف من الموت إلى واجب مقدس، ويتحوّل الأديب المقاوِم إلى خالد الذِكر بواسطة مجموعة من الطقوس والإشارات.

ثمة مواجهة هنا بين برتقال يافا وأشواك الاحتلال، والأدب له نبؤته وبشارته في هذا الصدد.

من الذي في مقدوره أن يحدد متى يسلب الآخر أرضه أو حياته وتحت أي مسمى وفي أي ظرف؟ نيرون ودقلديانوس وغيرهم من أباطرة الرومان عندما اضطهدوا المسيحيين قديمـًا صنعوا أيقونات ستبقى لأبد التاريخ، وحديثـًا في زمن الثورات العربية عندما يرسم فنانو الغرافيتي صور زملائهم الذين لقوا مصرعهم برصاص غادر ويحولونهم إلى رموز للمقاومة.

وجوه الأدب الفلسطيني صنعتْ هذا وأكثر؛ وأنتجت سبيكة إبداعية واحدة تتوازى مع تعدد الأساليب الشعرية، التي جمعت بين الأسلوب الغنائي والسير ذاتي والسردي والعجائبي والشفاهي والرمزي؛ لذا كتبنا عنهم وأشرنا إلى أهم محطات إبداعاتهم الثرية.

في الفصل الثاني، الذي يحمل عنوان «في الشعر والأدب»، نطالع موضوعات متنوعة مثل «الرواية اليمنية.. سرد برائحة البارود»، و«الأطلال.. جاذبية سرِّية»، و«البطل الشعبي بين الملحمة الإفريقية والسيرة الهلالية»، و«عادات الكتابة»، و«المصادرة والمحاكمة.. خطر الحرب الثقافية».

ويتناول الفصل الثالث وعنوانه «عالم الرواية»، قضايا وأعمالًا مختلفة منها: «صحافة نجيب محفوظ.. ديوان الحياة»، و«فقه الموت في «مماليك جزيرة الرعد»، و«فُقاعة «بشير الكُحلي» تنفجر في وجوهنا»، و«أنا وهيبة».. شجرة آلام العائلة»، و«فن البوح في «اتجاه عكسي»، و«في قلبي رضا».. وطأة الغياب»، و«آخر سلاطين الجنوب في »حارة الصوفي«، و«روح واحدة».. وخمس حيوات». ومن الروايات والمؤلفات الأجنبية، تناولنا بالدراسة والنقد «قسوة «المراكب الورقية بيننا»، و«ستونر».. تمرد المستسلمين»، و«المسرنمون».. مواجهة مع انهيار القيم»، و»تاريخ النساء عبر 101 شيء».

هنا، لا نمارس النقد من أجل النقد، بل «من أجل التحرر من كل ما هو ميت أو متخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي. والهدف فسح المجال للحياة أن تستأنف فينا دورتها وتعيد فينا زرعها»، كما يقول د.محمد عابد الجابري (تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ص7-8).

هذا الكتاب يحاول أن يمنح القارئ مساحة أكبر للفهم والتخيل، والبحث والتحليل، لعلنا نجد في نهاية العتمة ضوءًا أو منارة.

وربما جاز القول إن هذا الكتاب يمنح القارئ هدْنة من الألم الذي يحاصره ويترصده في زمننا هذا.

أتمنى لكم قراءة تجمع بين الفائدة والمتعة.

من مقدمة كتابي:

«برتقال وأشواك: أدب برائحة البارود» (دار المحرر، القاهرة 2024)

 

ردود

Name

إعلام,20,الحكواتي,244,المحروسة,304,بشر,150,رياضة,106,سينما,13,مؤلفات ياسر ثابت,103,مروج الذهب,171,مساخر,51,وطني الأكبر,28,
ltr
item
قبل الطوفان: برتقال وأشواك: أدب برائحة البارود
برتقال وأشواك: أدب برائحة البارود
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEjMJEmzSDYeCmXC-z2POWBSSJiSJoMVzbTZdoJ_5XU7MOpXpgP07zeIgkQOlRO1YWPCmfJsilv6ShbwmnOTxDkUAd_N1pRd0pCOFcphlmSiUYyw6zvE7Lx4Kn3ZOs1Qtuu4-Ee3R_USsQ4WiwwaeINj_uTX0jZ3zB6Izle10cIhiFoTUdQ75gJvUsUhrlmH/w448-h640/%D8%A8%D8%B1%D8%AA%D9%82%D8%A7%D9%84%20%D9%88%D8%A3%D8%B4%D9%88%D8%A7%D9%83%20-%D8%BA%D9%84%D8%A7%D9%81.jpg
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEjMJEmzSDYeCmXC-z2POWBSSJiSJoMVzbTZdoJ_5XU7MOpXpgP07zeIgkQOlRO1YWPCmfJsilv6ShbwmnOTxDkUAd_N1pRd0pCOFcphlmSiUYyw6zvE7Lx4Kn3ZOs1Qtuu4-Ee3R_USsQ4WiwwaeINj_uTX0jZ3zB6Izle10cIhiFoTUdQ75gJvUsUhrlmH/s72-w448-c-h640/%D8%A8%D8%B1%D8%AA%D9%82%D8%A7%D9%84%20%D9%88%D8%A3%D8%B4%D9%88%D8%A7%D9%83%20-%D8%BA%D9%84%D8%A7%D9%81.jpg
قبل الطوفان
https://yasser-best.blogspot.com/2024/08/blog-post.html
https://yasser-best.blogspot.com/
https://yasser-best.blogspot.com/
https://yasser-best.blogspot.com/2024/08/blog-post.html
true
5099734155506698511
UTF-8
تحميل كل الموضوعات ليس هناك أي موضوع مشاهدة الكل تابع القراءة تعليق مسح التعليق حذف الناشر الرئيسية الصفحات الموضوعات مشاهدة الكل اقرأ أيضا قسم أرشيف ابحث كل الموضوعات لم يتم إيجاد موضوع يطابق بحثك عودة إلى الرئيسية الأحد الاثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت الأحد الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت جانفي فيفري مارس أفريل ماي جوان جويلية أوت سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر جانفي فيفري مارس أفريل ماي جوان جويلية أوت سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر اللحظة قبل دقيقة $$1$$ قبل دقيقة قبل ساعة $$1$$ قبل ساعة أمس $$1$$ قبل يوم $$1$$ قبل أسبوع قبل أكثر من 5 أسابيع متابعون تابع محتوى مشروط اضغط لفك التشفير انسخ الكود ظلّل الكود تم نسخ الكود في الكيوبرد لم يتم نسخ الكود/ النص, اضغط [CTRL]+[C] (or CMD+C with Mac) للنسخ