عصر المدرجات

يحتفي هذا الكتاب بالمشجعين، بأهازيجِهم وأغانيهم وهتافاتهم. في هذه الأهازيج، تجتمع كل التناقضات: الفخر، والتعاضد، والتحريض، والتنمر. إنها ر...



يحتفي هذا الكتاب بالمشجعين، بأهازيجِهم وأغانيهم وهتافاتهم.

في هذه الأهازيج، تجتمع كل التناقضات: الفخر، والتعاضد، والتحريض، والتنمر. إنها رابطة الجمهور المقدسة التي يصنعها التشجيع وروح الانتماء.

الهتاف الذي يغسل وجه العتمة، هو شريعة الجماهير.

والمدرج، الذي هو بيتٌ في الهواء الطلق، يرسُمُ لِلوردةِ أبعادَها منْ جديد.

والملاعب، تلك السجادة الخضراء اللامعة، حيث تكون النجوم أقرب بقليل مما تبدو عليه.

واللاعب الذي يركض ويراوغ ويسدد ويفرح ويغضب ويتحسر، لا ينظر إلا نادرًا إلى السماء التي تعبر فوقه، أو يعبر فيها، كأنّها بلا جغرافيا بلا حدود.

بالنسبة إلى حراس المرمى، الطيران مُغرٍ، وسط آهات الجمهورِ العاشق والمتيَّمِ. وما بين الآمال والخيبات، كثيرٌ من الحماسة ولاعبٌ وحيد: حارس العرين.

إنه حارس المساحات والمسافات، الذي يحمل في يده الخشنة زهرة جميلة.

لا يملك المدافع مرآةً يرى فيها قامته أو وجهه. لا يهم، ما دام قادرًا على قطع الطريق على لاعبي الفريق المنافس، والتصدي لهجماتهم الخطرة. وفي كل خط دفاع، ستجد ثلاث تلالٍ وغيمةً وحيدة.

يتمركز لاعب خط الوسط بين عنوانين معروفين فيما هو في المجهول. والمجهول أحيانًا نظرة أولى تُوقعك في الحُبِّ أو تجعلك عرضة للأخطاء القاتلة. يكتب قصيدة مزاجية، بتمريراته القاتلة، ويوقف سيل الهجمات المرتدة، حرصًا على فريقه وانتصارًا لكبريائه.

يركلُ الكرةَ القدم، ويمضي خلفها، وكأن العالم يقيم خارج مداركه.

يجيد المهاجم الحبكة الدرامية، فهو رأس حربة الفريق والأمل الكبير في اختراق الدفاعات الحصينة وهز الشباك ودك مرمى المنافسين. في رئته شجرة، تتقاسم الهواء مع العصافير. في الزمن المتدفق، يحمل لواء النصر ويطارد الفرص السانحة والكرات المستحيلة، وهو مهددٌ -في حال تعثره- بشعائر الجنازة.

استراقات، ومناورات، ومحاولات لخطف الكرة من المنافسين، والتسديد على المرمى بكل الطرق الممكنة. السرعة أساسية، ورد الفعل يحسم الكثير. فليركض، إذن، كأنَّه مُطارَدٌ من ذئابٍ وضباع.

 ليس المهاجم وريث سيزيف، ولا يريد كلما وصلَ قمة الجبل بصخرته أن تتدحرج، لكن المهارة والقوة والسرعة تحتاج دومًا قدرًا من التوفيق أو الحظ.

إنجازه المهمة هو الفرحة الكبرى للجمهور واللاعبين، وإخفاقه لن يُنسَب فقط إلى سوء الحظ، بل قد يتحول إلى لعنات تنهال عليه من كل الجهات، ليصبح الشقاء في كامل حلّته.

هو المسؤول عن أحوال الأمل، وحصد الألقاب والصعود إلى منصَّات التتويج.

لا يَلعب المهاجمُ النَّردَ على الشاطئ، بل يسدد ويراوغ ويمرر الكرة في ملاعب مأهولة بالشغف. عليه أن يبتكر وأن يكون خارقًا إلى الدرجة التي يتذكر فيها أن حركةَ الطائرِ لا تُشبه نفسَهَا في كلِّ رحلة طيران.

واللعبة ترسم فوق المستطيل الأخضر كل الدروب إلى البهجة.

ففي أيام النصر، تنبتُ الشمسُ على هاماتِ المباني، وعلى أكمامِ الزجاج وذؤاباتِ الشجر. تبتلُّ شفاهُ الجمهور بموسيقى زُلال، تُبارك الفوز وتتبادل التهنئة. ينفض عشاق الساحرة المستديرة عن كتف الحياة غبارَ السأم.

ربما نجد جماعات الهوس، من المولعين بسعارهم، ممن يصرخون، ويصفّرون، ويحطمون، ويخربون، على سبيل الاحتفال أو الغضب. لا سبيل إلى تبرير مثل هذه الممارسات التي لا تتفق مع الروح الرياضية، ومن الواجب أن نسأل بحزم: كم من الوقت ينبغي أن يدوم هذيان هؤلاء؟ ومن يسمح لهذا لانفلات بأن يدوم؟

إن ضبط المدرجات لا يقل أهمية عن ضبط الملاعب، حتى يكون التشجيع لغةً محببة، لا ممارسةً شنيعة.

في زمن عولمة الانفعالات والعواطف والميول، المجد لكرة القدم التي توحد الأفراد والشعوب، وتجمع بين المشجعين في المدرجات والمتفرجين عبر الشاشات وأجهزة الكمبيوتر والهواتف المحمولة.

المجد للعبة التي تسيل وتذوب وتتجانس معها شعوب العالم.

أتمنى لكم قراءة تجمع بين الفائدة والمتعة.

----

من مقدمة كتابي

عصر المدرجات، دار اكتب، القاهرة، 2024


 


ردود

Name

إعلام,20,الحكواتي,234,المحروسة,299,بشر,139,رياضة,105,سينما,11,مؤلفات ياسر ثابت,90,مروج الذهب,164,مساخر,51,وطني الأكبر,27,
ltr
item
قبل الطوفان: عصر المدرجات
عصر المدرجات
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEhdNJhn0wYkcQIgBhFqjDVwPVNYEfXD_f9KKuFS-7YeH1-ozFYYnkJ83K5FoI8ftiEml0GAyVYwrnfS2Q75s7RMEv9KSFZDzTxBlfetyrHSkPYOcc10tKsFUR6JG-kmigFP_S5bxywUMxJWzYmNrOVc-iGk9terUH-yPGH-io_iykqpnUqmJhmZunDeGuMP/w438-h640/%D8%B9%D8%B5%D8%B1%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D8%B1%D8%AC%D8%A7%D8%AA%20-%20%D8%BA%D9%84%D8%A7%D9%81.JPG
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEhdNJhn0wYkcQIgBhFqjDVwPVNYEfXD_f9KKuFS-7YeH1-ozFYYnkJ83K5FoI8ftiEml0GAyVYwrnfS2Q75s7RMEv9KSFZDzTxBlfetyrHSkPYOcc10tKsFUR6JG-kmigFP_S5bxywUMxJWzYmNrOVc-iGk9terUH-yPGH-io_iykqpnUqmJhmZunDeGuMP/s72-w438-c-h640/%D8%B9%D8%B5%D8%B1%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D8%B1%D8%AC%D8%A7%D8%AA%20-%20%D8%BA%D9%84%D8%A7%D9%81.JPG
قبل الطوفان
https://yasser-best.blogspot.com/2024/02/blog-post_97.html
https://yasser-best.blogspot.com/
https://yasser-best.blogspot.com/
https://yasser-best.blogspot.com/2024/02/blog-post_97.html
true
5099734155506698511
UTF-8
تحميل كل الموضوعات ليس هناك أي موضوع مشاهدة الكل تابع القراءة تعليق مسح التعليق حذف الناشر الرئيسية الصفحات الموضوعات مشاهدة الكل اقرأ أيضا قسم أرشيف ابحث كل الموضوعات لم يتم إيجاد موضوع يطابق بحثك عودة إلى الرئيسية الأحد الاثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت الأحد الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت جانفي فيفري مارس أفريل ماي جوان جويلية أوت سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر جانفي فيفري مارس أفريل ماي جوان جويلية أوت سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر اللحظة قبل دقيقة $$1$$ قبل دقيقة قبل ساعة $$1$$ قبل ساعة أمس $$1$$ قبل يوم $$1$$ قبل أسبوع قبل أكثر من 5 أسابيع متابعون تابع محتوى مشروط اضغط لفك التشفير انسخ الكود ظلّل الكود تم نسخ الكود في الكيوبرد لم يتم نسخ الكود/ النص, اضغط [CTRL]+[C] (or CMD+C with Mac) للنسخ