أفضل شركائي في الجريمة

  لم يكن أبطال هذا الكتاب جزءًا من أيامي، بل كلها وأكثر ! أسماؤهم الجليلة هي عناوين لغرف القلب، وزوايا العقل وحنايا الروح . تجري في عروقهم ق...

 





لم يكن أبطال هذا الكتاب جزءًا من أيامي، بل كلها وأكثر!

أسماؤهم الجليلة هي عناوين لغرف القلب، وزوايا العقل وحنايا الروح.

تجري في عروقهم قطرات من دمي.

لنقل إنهم رفاق الزمن، الذين جعلوا لهذه الحياة معنى.

كُلُّ واحدٍ منهم هو ذاك الذي يُفتَقَدُ في كُلِّ شيء.

لهم قلوبٌ كرغوة النهر، تُبادِلك كل صباحٍ نخبَ الشوق والشروق.

ما من تاريخٍ إلا تاريخ الروح.

في كتاب الكون، صادفتُ بشرًا أقرب إلى السحرة، وآخرين ارتضوا السُخرة. من هؤلاء تعلَّمتُ الكثير، وأدركتُ أن هناك من احتكر المحبة ومحلها القلب.

هناك أيضًا من تصبح سذاجتُه أو هزله موضوعًا للنميمة.

الكتابة عن هؤلاء نوعٌ من الوعي بالنفوس والأفكار والفنون، وإقرارٌ بتجاعيد الزمن. إنها إبانة للذات بعد طول إضمار، مع قدرٍ لا بأس به من مهارة الحكي، والحكمة، والحنكة والأسى، وربما الحنين والرثاء.

كل إنسان مرَّ بحياتنا هو في حد ذاته فكرةٌ وتفاعلٌ وتجربة وجودية شكّلتنا بدرجةٍ ما. فأن نعيش يعني أن نتغير، لأننا في إطار الزمن نشيخ، ومن المستحيل أن نبقى كما كنا، فالتغيير ليس هدفًا بل ضرورة وسيرورة.

ولأن الأمل مثل الخوف، عنصران أساسيان في تركيبة العالم، فقد كتبتُ عن هذين الحدين عبر السطور التي بين أيديكم الآن.

لا تغلق الحكاية أقواسها، ولكنها تترك تأثيرًا قويًا، كما لو أنها صورة نادرة للألم.

وأخطاء الفقد لا تُصحّح ولا تُجبَر.. مثل كسور القلب.

بحروف هذا الكتاب، أحاولُ تعويض الأنفاس التي سقطتْ مني أثناء مسيرة أيامي. ذلك أنني كلما تقدّمتُ في العمر اكتشفتُ أن حياتي حلمٌ أفتحَ عينيّ بعده لأجد شوارع خاوية ومدينة غافية تحت قدميّ.

وإذا كان لا بدَّ للمرء أن يموت حاملًا معه بعض الأسرار، فقد ارتأيتُ أن البوح ببعض ما عرفت عمن عرفت هو نوعٌ من تقاسم الكنوز مع قارئ نبيل، ومداواة روحي من ألم الحنين أو لوعة الفراق.

هكذا نكتب، حتى لا يقتلنا الصمت، ونخطُ متنًا أبديًا يتحرَّرُ من اليأس ويعيدُ خَلْقَ العالم.

نكتب، كي نتفادى تَحنيط الحِداد.

نكتب، كي نعثر على صبّارة لم تستقرْ بعد على قبرٍ وحيد.

نكتب، في محاولة يائسة لإبطاء الإحساس بالمتعة والألم.

في الكتابة، تسافرُ الأشواق بعيدًا، إلى مدائن الحنين. بالحبر الواهي والحرف الساهي، تزورُ الراحلين، وتلتقي الغائبين، وتُربِّتُ على أكتاف المهاجرين. وكلّما ازدادت كثافة الضّباب والغموض، شبّ الحنينُ على أطراف أصابعه، وقبَّلَ الوحشة المعلَّقة في الفراغ.

هذه الإفادات الشخصية والاعترافات، الواقعي منها والروائي، تشبه التصوير الفوتوغرافي في كثيرٍ من التفاصيل. ذلك أنك تلتقط زوايا مهملة وتمنحها دور البطولة، وتعتني بالضياء الغائم الذي تُنسَجُ بسحرِه الأحلام، ولا يفوتك تكبير حتى ذرّة الغبار الأخيرة العالقة في حُزَم النور المتسرِّب من نافذة الحياة.

ولأن الإسهاب في الشرح قد يجور على الكتابة بدلًا من أن يضيف إليها، لأنه يصادر طاقتها الإيحائية، فقد عمدتُ إلى التكثيف والإيجاز في كثير من الأحيان حتى أشعر أن العبارة أنارت، وأوحت بما كان يمكن أن يختفي تحت حمولة الكلمات.

بعض الذين حكيتُ عنهم هم الآن أرواحٌ تجهشُ في الفلواتِ، وأطيافٌ تجتاز الغيوم في صعودها إلى السماء. داسوا على حجر الموت، فخطفهم الضَّوْء والصَّقيعِ والزمن، بعضهم الآخر سفينةٌ راسية على ضفة شاطئ يغص بحطام الغرق. فريقٌ ثالث يشبه مُوشَّحًا للوصلِ والشجنِ القديم يورثك الأمل.

في أزمنةٍ خاطفة وأماكن لها حفيفُ النجومِ البعيدةِ، ترجلّوا عن الرّيح التي لطالما امتطوها، وتركوني وحيدًا مثل رسالةٍ مهجورة أو شاهدٍ من رخام. والموت صديقٌ قديم، بلا وجه ولا ملامح، لكنه اختبأ في قلبي وابتكر جثث اللغة.

الموتُ طليعةُ البَداهاتِ في تاريخِ البشر والكائنات، رغم أنّه يظَلُّ منذ الأزل عنوانَ الغموضِ والصّدمة وتجديدِ الألم والفراق. وبما أنه واقعة تنزلُ نوازلُها بكثافة أكثر سطوة، في زمن الأمراض والضغوط والحروب والأوبئة، فقد بات الموتُ يحاصرُ الحياة وتكاد هواجسُه الملحّة ووقائعه اليوميّة، تعرقل وتحطّم تلك الاندفاعة الغريزيّة لهاجسِ البَقاء والاستمرار. صار يزحف من كل فضاء ومكان. وصارت البلادُ والمدُن والبشر مسرحًا مفتوحًا للمراثي والدموع.

غير أن الموتَ ليس نهاية الحياة.

مع هؤلاء الذين أطفأ غروبُهم سمائي، عرفتُ أن التفاني أثمن من العطاء، وأننا في النهاية لسنا سوى وجوه ذائبة، وأغصان يابسة.

في غيابهم، أتذكر تاريخ ميلادي البعيد، وأكتشفُ أني النقطة التي ضيَّعتْ الطريق.

هأنذا أدرأ الصدمة، كي أحفظَ رمادهم بإحكام.

ربما كانت ذاكرتي أكبرَ من العالم، لتفيض بكل هذا الحنان.

ربما كنتُ أتقنُ امتصاص التعب القديم، كي أزدحم بكل هذه الصور والأخيلة.           

أحببتهم جميعًا، وإن كنت لا أملك يدًا لتلويحة الوداع.

وإذا كانت ضغوط الحياة تُعطِّل الذاكرة، حتى ينطفئ صوتُ من يقوى على سردها، فإن علينا أحيانًا تعطيل آلة النسيان. ذلك أننا نستمر في الحياة عبر ذاكرة من يحبّنا.

أعلمُ جيدًا أن الرجلَ يبقى مُعافى حتى يُوَدِّع صديقًا، فإذا ودَّعه، لا يعود كما كان.. يفقدُ شيئًا من بريق ضحكته، ومن خفة مشيته، ومن أنس جلسته، وتتكاثر حول راحتيه الظلال.

لا تلتئم الجروح سريعًا. لا كلمة تضاهي عينًا باكية، ولا زفرة تسدد ديون الحزن.

كم حاولت طي صفحة الذكريات، لكن فاتني أن إغلاق الباب أمام الثقل، لا يعني بالضرورة أنه لن يدخل من النافذة.

والكتابة كما البكاء تفريجٌ هائل عن طاقة سلبية، وترويحٌ عن النفس وتعبيرٌ عن الإيمان بضعفنا الإنساني. إنها نافذةٌ يدخل منها بعض الضوء، في محيطٍ جرَت هندسته كي يكون أشبه بقلعة ذات جدران سميكة.

ونحن، من نسل البشر الفانين، رمينا في بحر الغياب كلّ الإجابات، وتركنا دموعنا تنمو لتصبح أصواتًا مختنقة، وصورًا وتماثيل في مُتحف الأسى.

أنتم الآن في قلب المتحف، وفي بؤرة الأسى؛ إذ يخرج جرحي إلى العالم.

كيف سأكمل الرحلة من غيركم؟

لا أدري.

ها هو قلبي المثقل بالغياب يتخفّف مثلما تتخفّف روحي، بالبوح الحزين عن أجمل الزهور في حديقة الغروب.

أتمنى لكم قراءة تجمع بين الفائدة والمتعة.

--------------

 

من مقدمة كتابي 

أفضل شركائي في الجريمة، دار زين، القاهرة، 2024

ردود

Name

إعلام,20,الحكواتي,234,المحروسة,299,بشر,139,رياضة,105,سينما,11,مؤلفات ياسر ثابت,90,مروج الذهب,164,مساخر,51,وطني الأكبر,27,
ltr
item
قبل الطوفان: أفضل شركائي في الجريمة
أفضل شركائي في الجريمة
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEiW6NClpLAGye65BVHeA-yaMMMMLXUeSr8TE7DkZrMl5SW6Um2Q2O6BekJbNlcAj_0bLGK94F2MMG_DbAoOaqfa0ScApX4dHWJQ7B1hhMb0VlV58jMv4MzSghwlqK-E_Ib-Soft-8CHZpZja2tnbl368rNCcgP3asUuNK9gtijUDFtqxBB8qQRdWxvcfmh1/w640-h444/%D8%A3%D9%81%D8%B6%D9%84%20%D8%B4%D8%B1%D9%83%D8%A7%D8%A6%D9%8A%20%D9%81%D9%8A%20%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B1%D9%8A%D9%85%D8%A9%20-%20%D8%BA%D9%84%D8%A7%D9%81.JPG
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEiW6NClpLAGye65BVHeA-yaMMMMLXUeSr8TE7DkZrMl5SW6Um2Q2O6BekJbNlcAj_0bLGK94F2MMG_DbAoOaqfa0ScApX4dHWJQ7B1hhMb0VlV58jMv4MzSghwlqK-E_Ib-Soft-8CHZpZja2tnbl368rNCcgP3asUuNK9gtijUDFtqxBB8qQRdWxvcfmh1/s72-w640-c-h444/%D8%A3%D9%81%D8%B6%D9%84%20%D8%B4%D8%B1%D9%83%D8%A7%D8%A6%D9%8A%20%D9%81%D9%8A%20%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B1%D9%8A%D9%85%D8%A9%20-%20%D8%BA%D9%84%D8%A7%D9%81.JPG
قبل الطوفان
https://yasser-best.blogspot.com/2024/02/blog-post_75.html
https://yasser-best.blogspot.com/
https://yasser-best.blogspot.com/
https://yasser-best.blogspot.com/2024/02/blog-post_75.html
true
5099734155506698511
UTF-8
تحميل كل الموضوعات ليس هناك أي موضوع مشاهدة الكل تابع القراءة تعليق مسح التعليق حذف الناشر الرئيسية الصفحات الموضوعات مشاهدة الكل اقرأ أيضا قسم أرشيف ابحث كل الموضوعات لم يتم إيجاد موضوع يطابق بحثك عودة إلى الرئيسية الأحد الاثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت الأحد الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت جانفي فيفري مارس أفريل ماي جوان جويلية أوت سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر جانفي فيفري مارس أفريل ماي جوان جويلية أوت سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر اللحظة قبل دقيقة $$1$$ قبل دقيقة قبل ساعة $$1$$ قبل ساعة أمس $$1$$ قبل يوم $$1$$ قبل أسبوع قبل أكثر من 5 أسابيع متابعون تابع محتوى مشروط اضغط لفك التشفير انسخ الكود ظلّل الكود تم نسخ الكود في الكيوبرد لم يتم نسخ الكود/ النص, اضغط [CTRL]+[C] (or CMD+C with Mac) للنسخ