سينما القلوب الوحيدة

  هناك أفلام ليست مجرد سينما.. بل حياتك . تستضيف الأفلامُ أحلامَك وكوابيسك. تضعُك في روحانية اللحظة وعظمة اللقطات، ثم تُوجِّه إليك سؤالًا ...


 

هناك أفلام ليست مجرد سينما.. بل حياتك.

تستضيف الأفلامُ أحلامَك وكوابيسك. تضعُك في روحانية اللحظة وعظمة اللقطات، ثم تُوجِّه إليك سؤالًا وجوديًا: أين مكانك في هذا العالم؟

السينما هي الجحيم الذي لا بدَّ منه. جلسة حميمية طويلة، تخرج منها مُعتدًا بأوهامك. صُرَّة من المشاعر، بعثرها الهواء. وهي في أحيانٍ أخرى مخدراتٌ سخيفة، ومعجناتٌ مصممة لاسترضاء المعدمين بأحلام يقظة عن نعمةٍ لا يمكن الوصول إليها.

في ساعتين، تختبر حياتك كلها. في ساعتين، تواجه الموتَ عاريًا. في ساعتين، تنصتُ إلى مواء قلبك. في ساعتين، تعاينُ نتاجَ عدسةٍ أطبقت على الألم.

تستذكر العالمَ المنهار الذي عايشته للتو مثل جثةٍ قابلة للتحنيط، وتتعلّمُ أنه لا كراهية دون قسوة. ترى على مر شريط الفيلم، الطريقة التي يقوض بها البعض احترامه لنفسه، فيمحو ثقته وصوته، حتى لا يعود قادرًا على حُبِّ نفسه أو التعرف على نفسه من بعيد.

تتجسَّد أمامك شخصيات تطوف في حلقة لا نهائية، تتألف من جميع الخيانات وخيبات الأمل، إلى أن تنزف بالذنب واليأس لبقية حياتها. وربما تجد في أحداث الأفلام مكانًا لإيواء فجيعتك، وتنال أخيرًا زمنًا مُظللًا بمودةٍ مفتقدة أو خلاصٍ مأمول.

أمامها، تتابعُ رحلة الريشة في العاصفة. تفرُّ من فروض التعب، لتشاهدَ أبطال الأساطير منقادًا، ومتورطًا، وتكون في المواقف الحاسمة والقرارات العصيبة أول من يوافق، وآخر من يعصي. تمضي معهم بحنينٍ فائض.. حتى النهاية.

تكتشفُ شتيمةً مخبَّأة في أعماقك، وتساؤلًا مريرًا: لماذا نساعد الآخرين على التطور بينما لا نبرح مكاننا؟

ترفع لافتة النضال في حروبٍ مستعارة، وتركض ككائن فضائي يقاتل الويل لإنقاذ ما تبقى من أيامك الآسنة.

تهزمك دموع الأمهات وتهش الذباب عن وجوه الصغار، وتقلق على رضيعٍ في المقعد الخلفي من سيارةٍ مسروقة، وتواسي في تنهيدة الليل روحك الخائرة. تتأمل أطلس السماء وتتبادل الأنخاب مع الحمقى في الحانات، وتتقاسمون ما تبقى في قدور الطعام الصدئة، في حين تصفِّر غلاية الماء في غضب.

تمحو أُميتك تجاه التاريخ، والجغرافيا، والمشاعر الفريدة الأعمق والأشد حدة وأحيانًا الأكثر إيلامًا.

تدركُ فداحة ثمن الشهامة التي قد تبلغ حد التهور، وخطيئة مساومة النساء كسمسار عقارات، ومعنى الشقاء في بلادٍ غريبة.

تتعلّم أن الجنس والمال يدفعان البشر للعصاب والجنون، وأن الحياة مُعبّدةٌ بالظمأ للحقيقة والليالي المارقة.

فإذا تعانق قلبان أمام الكاميرا، تدحرج الكرزُ من شفتيك وفاض الماء من أوديتك اليابسة.

وحين تعود إلى البيت، تستلقي بكامل ملابسك وكوابيسك الحالمة. تُحَدِّث نفسك قائلًا: «لم أمتْ، وربما لم أعشْ».

بعض رواد السينما، مولعون بسيارات السباق، والدراجات النارية بفرقعاتها، والمسدسات كاتمة الصوت، والأقنعة المخيفة، والأحصنة التي تسبق السوط بالخفة، والملح المضرج بالأجساد والشفاه الميتة، والدماء التي تغطي الشاشة. يتابعُ أحدُهم بولعٍ، وهو يدسّ الفئران في قفصه الصدري، ثم يسأل نفسه باحثًا عن إجابة بائسة: ما الذي تعرفه أنت عن الخوف؟!

بعضهم الآخر، عالقٌ وسط أصابع التجربة؛ يريد أن يطمئن إلى وجود عاطفةٍ نبيلة أو شيء اسمه الأمل. يضطرم دمه مع كل قصةٍ مبتورة. ومع أول التفاتةٍ للجميلة، تنمو في صدره أشجارٌ وجبالٌ فتيّة. بالحنان، تكبُرُ تلك الفروع الخضراء الدَّاكِنةُ المحبوكة في الفضاءاتِ الرائعة.

تُذكّرك السينما بأنّ العمر يمضي، وأنه لا معنى لإرضاء الآخرين على حساب نفسك.

توقد الشعلة الواهنة في غرفتك الصغيرة، وتستمع إلى العواء الثلجي للعاصفة.

تنتبه إلى ألوان الجدران في منازل العزلة، وهندسة الأسطح القرميدية، وشكل النوافذ المضاءة ليلًا، وأسى آنية الزهور الفارغة.

في دور العرض، تساعد أبطالك المفضلين على التخلص من السُمْعَةِ الشائنة والذكريات المُعَذِّبَةِ والأعوامِ المسلوبة. تحرضهم على نزع ما يُشقيهم، وأنت تتحسسُ -كقيثارةٍ مخدوشة- صدرَك المعقود بالتعاسة وجيوبك الخاوية.

وحين تضاء الأنوار بعد نزول الأسماء على الشاشة، تزفر زفرةً تليق بالماضي المتأجِّج الذي دفعكَ في لحظةٍ ما خارج العالم.

ذلك أنه بنعشٍ من رياء، «قد يكون الضوءُ حُزنًا آخر» – كما يقول قسطنطين كفافيس.

والسينما صادقة بضجيجها.

مدرسة تُربي ذائقتنا وطريقتنا في النظر، في الحُكم، في المتعة.

السينما فسحةٌ للجميل والمدهش والممتع والمرِح والمعتم والمقيت، أي لعواطفنا وانفعالاتنا في أعلى تجلياتها الفردية والاجتماعية. في قاعات العرض، يتسلل ضوءٌ شحيح وخافت يلتحم بالظلال كالغبار المتلألئ مُبرزًا حدود المكان، فيما أحداق أعيننا تتسع، وأنفاسنا تلهث وراء تلك الصور التي تستحوذ علينا.

السينما وطنٌ مصغَّر للحالمين والمؤرَّقين. يكفي أنها تلغي كل الهويات الأخرى، وترى المشاهد «إنسانًا» قبل أي شيء آخر.

صورٌ محفورة في الذاكرة ووعودٌ محفوظة في القلب ولعنات لها ثمنٌ فادح.

بفضل الصور تتشكل عبقرية المخرج السينمائي، حين يستطيع أن يجعل من هذه الصور عملًا فنيـًا، ومن العمل الفني أداة لتوضيح الحقيقة نفسها في الفن، والفن هو ما يقاوم الموت بلغة الفيلسوف والناقد الفرنسي جيل دولوز، وهو أيضـًا ما يُشكِّلُ مخرجـًا لأزمة الروح؛ لأن الفن يتجاوز نسيان الوجود بواسطة الزمان كحركة وصورة.

اكتسبت السينما فرادتها وتطوراتها التقنية، من اعتمادها على الرأسمال التقني، والبصري، والسردي من داخلها، عبر خبرات التصوير والسيناريو، والإخراج، والتمثيل، وثقافة الحيز المكاني. إنها منظومة كاملة متضافرة من الإنتاج الإبداعي، والحوار، والتمثيل، والإضاءة، وحركة الكاميرا، والإخراج بوصفه سيد العمل السينمائي.

لقد خاطبت السينما العالم كله، ولم تتطلب وسائط سوى الترجمة، أو نقل الحوار إلى لغة المشاهدين في ثقافات ولغات أخرى.

من هنا، تنبعُ أهمية استعادة رموز المتعة البصرية والسردية ذات رونقٍ خاص، ممن قدّموا مسارات مختلفة وملهمة للسينما الساحرة، ونجحوا في تطوير الفن، وتركوا بصمتهم التي لا تُنسى على هذا العالم الأثير بالنسبة لكثيرين.

وإذا كنا شهدنا تدهور السينما المصرية، إنتاجًا وإبداعًا، مع تراجع دور الناقد، فإن التذوق الفني والسينمائي، الذي يلتقط النماذج اللامعة والتجارب الساطعة، يسهم في رفد ثقافتنا البصرية، برؤى مختلفة تستحق الرصد والتسجيل.

إن المتعة البصرية التي تمنحنا إياها السينما لا تستحق أن ترقد على صخرة السكوت أو التجاهل؛ لذا حاولنا استقراء السينما ولغتها وجمالياتها التي لطالما أثرت فينا وشكّلت وعينا وإدراكنا.

في هذا الكتاب إضاءاتٌ مهمة تكشف عن جوانب جديدة من إبداعات قامات مثل المخرجين محمد خان وداود عبد السيد وعز الدين ذو الفقار، والممثل أحمد زكي، وأبرز مديري التصوير السينمائي في مصر منذ بدء هذه الصناعة في المحروسة، إضافة إلى فصول وموضوعات رأينا أنها تستحق الاهتمام ومناقشة تفاصيلها الثرية التي ترتبط بالسينما ومحتواها والقضايا المتعلقة بهذا الفن المرئي والمسموع.

ولأن حديث السينما ذو شجون، فقد ارتأينا أن نختصر في المقدمة قدر الاستطاعة، لندخل في صلب الموضوع، ونتقاسم رغيف المتعة والتسلية والوعي عبر سطور هذا الكتاب.

أتمنى لكم قراءة تجمع بين الفائدة والمتعة.

------------

من مقدمة كتابي

سينما القلوب الوحيدة، دار المحرر، القاهرة، 2024


إصدارات المحرر في المكتبات التالية:

القاهرة:
مكتبة تنمية
مكتبة البلد
مكتبة جدل
مكتبة ليلى
مكتبة الوسية
مكتبة عمر بوك ستور
الإسكندرية:
مكتبة نقوش
مكتبة بيت الكتب
مكتبة المعارف الحديثة
المنوفية:
مكتبة أنتيكا
المنصورة:
مكتبة الشوبري
مكتبة عصير الكتب (قريبًا)
الزقازيق:
مكتبة عصير الكتب (قريبًا)
طنطا والمحلة:
مكتبة إدراك
دمياط الجديدة والقديمةوبور سعيد:
مكتبة الفابيتكا
الأقصر:
مكتبة بيان
منصات الأونلاين:
موقع المحرر للتوصيل لأي مكان داخل مصر
موقع أسفار للتوصيل لجميع أنحاء العالم
موقع عصير الكتب للتوصيل لجميع أنحاء العالم
موقع بيت الكتب للتوصيل لأي مكان داخل مصر
موقع I READ (قريبًا)
ويمكنكم الطلب من خلال رسائل الصفحة أو عبر الواتساب 01124549848 لتصلكم الإصدارات لأي مكان داخل مصر.

ردود

Name

إعلام,20,الحكواتي,234,المحروسة,299,بشر,139,رياضة,105,سينما,11,مؤلفات ياسر ثابت,90,مروج الذهب,164,مساخر,51,وطني الأكبر,27,
ltr
item
قبل الطوفان: سينما القلوب الوحيدة
سينما القلوب الوحيدة
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEh5rCEaJGI8WgTF8VJ_swWx3yDBPy8EV5aea4h9rLCNP5XIw6_h7P9JzHEsr5BHzVFzAfCiD5Bq0FDa7vLK5wtVK3jWN_1j9-H3t-8ZN0XjwECtr52Zc23VCmOvW8mrr38m2QBEERq2e1WzCFTvVkKeM3qWKeOG7cQAKqsPG_jRe4hO8pVozLRg6qDhYzPk/w442-h640/%D8%B3%D9%8A%D9%86%D9%85%D8%A7%20%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%84%D9%88%D8%A8%20%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AD%D9%8A%D8%AF%D8%A9%20-%20%D8%BA%D9%84%D8%A7%D9%81.JPG
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEh5rCEaJGI8WgTF8VJ_swWx3yDBPy8EV5aea4h9rLCNP5XIw6_h7P9JzHEsr5BHzVFzAfCiD5Bq0FDa7vLK5wtVK3jWN_1j9-H3t-8ZN0XjwECtr52Zc23VCmOvW8mrr38m2QBEERq2e1WzCFTvVkKeM3qWKeOG7cQAKqsPG_jRe4hO8pVozLRg6qDhYzPk/s72-w442-c-h640/%D8%B3%D9%8A%D9%86%D9%85%D8%A7%20%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%84%D9%88%D8%A8%20%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AD%D9%8A%D8%AF%D8%A9%20-%20%D8%BA%D9%84%D8%A7%D9%81.JPG
قبل الطوفان
https://yasser-best.blogspot.com/2024/02/blog-post_67.html
https://yasser-best.blogspot.com/
https://yasser-best.blogspot.com/
https://yasser-best.blogspot.com/2024/02/blog-post_67.html
true
5099734155506698511
UTF-8
تحميل كل الموضوعات ليس هناك أي موضوع مشاهدة الكل تابع القراءة تعليق مسح التعليق حذف الناشر الرئيسية الصفحات الموضوعات مشاهدة الكل اقرأ أيضا قسم أرشيف ابحث كل الموضوعات لم يتم إيجاد موضوع يطابق بحثك عودة إلى الرئيسية الأحد الاثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت الأحد الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت جانفي فيفري مارس أفريل ماي جوان جويلية أوت سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر جانفي فيفري مارس أفريل ماي جوان جويلية أوت سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر اللحظة قبل دقيقة $$1$$ قبل دقيقة قبل ساعة $$1$$ قبل ساعة أمس $$1$$ قبل يوم $$1$$ قبل أسبوع قبل أكثر من 5 أسابيع متابعون تابع محتوى مشروط اضغط لفك التشفير انسخ الكود ظلّل الكود تم نسخ الكود في الكيوبرد لم يتم نسخ الكود/ النص, اضغط [CTRL]+[C] (or CMD+C with Mac) للنسخ