سيرة الغبار

    كتب بورخيس في كتابه «صنعة الشعر»، «أن الكتب هي فرصة للجمال». أن تكتب هو أن تغرس وردة في بستان أيامك، أو تنزع شوكة من عينيك. بالكتا...

 



 

كتب بورخيس في كتابه «صنعة الشعر»، «أن الكتب هي فرصة للجمال».

أن تكتب هو أن تغرس وردة في بستان أيامك، أو تنزع شوكة من عينيك.

بالكتابة تقطع مسافات مستحيلة وتردم هوة هائلة في روحك، أو تتفاوض مع الحياة على شروط البقاء.

الكتابة استمالة، فإن نفرَّ منك القارئ فأنت لم تكتب شيئًا.

والناقد الذي يصل إلى المتلقي بلغةٍ مفهومة وأسلوبٍ سلس، ويشرح التفاصيل ويُراعي الدلالات ويجيد الاستشهادات، هو الناقد الحق والكاتب الصادق مع نفسه والآخرين.

والاستمالة هنا لا تعني المداهنة ولا المهادنة، وإنما المقصود بالكلمة هو أن تجذب القارئ مع تقدير عقله ومشاعره وذائقته، دون أن تقع في محظور التفاهة.

يعمل الناقد على استجلاء التفاصيل وإزالة ظُلمة الرواية لتفتح له رحمها وتكافئه بفكرة ما؛ لذا يغزو العمل الإبداعي بهيبته المسوّرة بالعقلانية والمعرفة. والنقد في جوهره تقصٍ أو جهدٌ يتجه بنا إلى إمكانية عالية؛ إذ يهدف إلى إضاءة جوانب أخرى من الأعمال الفكرية والإبداعية.

إنه يحلّق فوق الحياة، ولكنه يصطاد من تفاصيل العمل الإبداعي جماليات أو سمات أو مواطن تستحق الفهم والتأمل، ويلتقط أصداء الأسئلة الدفينة، والمآزق الوجودية والأشواق الأبدية، بعيدًا عن أي استسهال أو تنميط.

لكل ناقدٍ حساسيته وتجربته التي تخوّله فهم آليات النص والكشف عن مزاياه واستخلاص النتائج المناسبة. لا يوجد شيء اسمه قراءة واحدة للنص، بل إن التأويلات هي جزء من متعة القراءة والنقد.

عبر قراءاتٍ نقدية وفكرية متنوعة، يُقدِّمُ هذا الكتاب رصدًا آنيًا ومتوهجًا ومفعمًا بالحيوية والخشونة للأدب والفكر المعاصر. الشاهد أن العقود القليلة الماضية كانت ديناميكية للغاية وحتى محمومة في المجال الأدبي بشكل عام، وبالذات في مصر.

المعرفة قرين للتراكمية، أما النقد فأساسه التذوق والمقارنة وخوض غمار الاشتباك مع الأصول.

نستقرئ الأدب ونتذوقه، بما فيهِ من مبالغات واستعارات ومواربات وإيحاءات ومجازات وتوريات.

ولكن، ما هو النقد؟

ما هو الشعر والأدب والنقد الفني؟

يجيب الناقد وعالم الاجتماع فالتر بنيامين على ذلك بأنّ النقدَ ليس هو الحكم، بل هو، بادئ ذي بدءٍ، إلقاءُ الضوء على ما يحتويه العمل من فكرٍ (فكرٌ لا ينفصل عن الشكل، عن الأشكال)؛ هو النشر بطريقة محايثة لما يحتويه الأثرُ من فكر. فأيُّ عمل ضعيف من جهة الفكر، هو عملٌ لا يستحقّ النظرَ. لذلك فإنّ النقد يركّز فقط على الكتب «الجيدة».

في كتابه «مفهوم النقد الجمالي في الرومنطيقية الألمانية» وهو أطروحة فالتر بنيامين (1919)، يقول الناقد إن النقد لا يتعلّق بكتاب. بل يتوغّل في الكتاب، عندما تكون لهذا الكتاب جدارةٌ ما، لتفكيك ألغازه. إن أيَّ عملٍ حقيقي هو عملٌ «لا نهائي»؛ إنّه ينشر ويشكّل عددًا لا نهائيًا من الترابطات وفي نفس الوقت يحدّها، ويحدّدها، عبر وساطة الشكل الذي يقوّيها. فهو يحتوي على «تواطؤات سرية». ولذلك فإنّ شكلًا من أشكال «عدم الفهم» (يمكن أن نقول اليوم عدم الوضوح) متأصّلٌ فيه. ذلكم هو حضور عقلٍ أسمى فيه، «عقلٌ كثيفٌ ومتوهج»، يعطي للأثر «مرونته وقوته» كما ذهب إلى ذلك فريدريش شليغل.

ولقد رأينا حتى في المجلات والصحف والمواقع الإلكترونية المختلفة قراءات نقدية عميقة، على الرغم من حدود الحيز النقدي، كان لها دورٌ في الارتقاء بذائقة القراء والمساهمة في تنشيط حركة النقد، بل وأسهمت هذه القراءات النقدية في تبسيط عالم النص حتى يحقق مقروئيته.

إن النقد يتحول إلى الأدب حين يستمد ما به يكون الأدبُ أدبًا، ليس على مستوى اللغة النقدية، ولكن على مستوى الفكر النقدي، بحيث يتم استخدام اللغة والفكر بطرائق غير مألوفة.

لقد انتبه الدارسون اليوم إلى الملمح الإبداعي للنقد الذي يتحول بلغته الواصفة إلى كتابة، يتراكب فيها طبقات وتتداخل، الموضوع المنقود، والإجراءات النقدية والبصمة الذاتية. مما جعل الناقد فلوريان بينانيش Florien Pannanech يتناول هذه الظاهرة في دراسة صدرت عن دار «سوي» عام 2019 تحت عنوان «شعرية النقد، النقد باعتباره أدبًا». Poétique de la critique De la critique comme littérature، وقد سبقت دراسات أخرى في هذا المضمار، مثل «طروس» لجيرار جينيه، و«نقد النقد» لتودوروف، و«شيطان النظرية» لأنطوان كومبانيون. ولو أن هناك بعض الفروق بين هذه الأعمال، حيث إن كتاب تودوروف هو قبل كل شيء كتاب في تاريخ الأفكار، حيث عمل على استخراج رومانسية الشكلانيين الروس، وبارت، وسارتر، وبلانشو.

ويتعيّن على الناقد الأدبي أن يكون مُلمًا بالفنون الأخرى التشكيلية والبصرية ومستوعبًا لأدوارها وتقنياتها وأن يمتلك حساسية نقدية وذائقة رهيفة تجاهها، من دون أن ينسلخ عن الأسس البلاغية واللغوية التي ينطلق منها في مقارباته للنص الأدبي. والناقد الأدبي قد يرتكز نقده أيضًا على المعرفة البلاغية أو الاستعارات والانزياحات أو حتى المعطيات النحوية والأساليب التركيبية، فيشير إلى الأساليب الإنشائية وأدوارها أو أنماط الجمل النحوية وأثرها أو يتفنن في مقاربة النواتج الجمالية والدلالية لأسلوب الشرط في قصيدة أو حتى نص. ولا بأس بأن نجد في الكتابات النقدية ظلالًا للأنثروبولوجيا والمقاربة النفسية وعلم النفس المعرفي أو الإدراكي.

غنيٌ عن القول، إن إنتاج الأثر النقدي لا يستقيم دون علاقة مثالية مع القارئ، فأول ما يقرر مصير النص النقدي هو لغته. في النقد، مهمة الناقد هي تحويل الفكرة النقدية إلى سبيكة لغوية مشرقة، عميقة، وسهلة المأخذ.

إن الشكل الأسمى للشعر هو الرواية بوصفها «شعرًا مرسلًا»؛ إذ يسع الرواية احتواء «عدد كبير من القصائد. فما يميزها قبل كل شيء، بقدر ما تنجز «فكرة الشعر»، هو خاصيتها «النثرية». فمن حيث هو سلوك متأمل وواضح، فإنّ التفكير هو عكس النشوة والهوس الأفلاطوني» وهو ما يسميه هولدرلين «الرصانة». يحدثُ أن تُقحم الرواية مبدأ التهكّم (وهو النفي المستمر للمحتوى). لكنه يلجأ أيضًا إلى «الأرابيسك»، الذي يتمّ من خلاله الارتقاءُ بالمواد وإبرازها باللجوء إلى المحتوى الأسطوري الذي يختبئ فيها. وبوصفه شكلًا ساميًا من التأمل، يكملُ النقدُ الأثرَ الأدبي ويجدّده، فيرفعه إلى مستوى أعلى من التفكّر القائم فيه بالقوّة؛ ولذا ينبغي أن يكون النقد في حد ذاته عملًا فنيًا.

إن الروائي يقدِّم لقارئه أحداثًا وتجارب مختلفة يمر بها أفرادٌ من نوعيات ومشارب متنافرة، ويدع للقارئ فرصة استنباط أفكار من وقع هذه التجارب التي تحاك وتُحْبك، لتُعبِّر عن اهتماماته. وتدفعه إلى إعادة النظر في إشكاليات وجودية وتساؤلات عن الهوية والانتماء، فضلًا عن إشكالية الحياة العبثية التي يتزعزع تحت وطأتها العالم كله.

ذات يوم قالت الأديبة الفرنسية مارغريت دوراس في استبصارٍ محترم:

«أعتقد أنّ الناس لن يقرأوا فيما سيأتي من الأيام، مع ذلك سيستمرّ البعض في الكتابة بالرغم من أنّ أحد لن يقرأ شيئًا، وستصير القراءة وقفًا على نحلة مغلقة. لا أريد أن أضع نفسي مكان أولئك الذين سيعيشون بعد العام 2000؛ لأنّ كلّ الشروط ستجتمع ليُعاش الضجر بامتلاء. لقد فكرّتُ مليًّا في السأم العميق الذي سيحلّ على تلك الحقبة ولا أرى غير ذلك، مع مزيد من الإمعان في السأم بحثًا عن حدثٍ هباء».

ربما يكون هذا صحيحًا، لكن الكتابة فريضة.

الأكيد أن «الحكاية الناجحة هي التي تُروى من جديد فيتحول من يصغي إليها إلى راو وهكذا»، على حد قول عبد الفتاح كيليطو في كتابه «الغائب: دراسة في مقامة للحريري».

عبر الأعمال الإبداعية المكتوبة، نفهم بدرجة أكبر الإنسان بكل نقائصه، ونستوعب قسوته وهشاشته، ونتأمل الحضور الباذخ للمكان والزمان، ونمتلك نظرة أعمق للحظات والأحداث السائلة، ونعيد الاعتبار لكل ما هامشي وعابر.

والروايات هي حكاياتٌ لا تغلق أقواسها، طالما أن القارئ يجد فيها طيف أحلامه أو بقايا كوابيسه.

دعونا نقول إن أفضل تعريف شخصي للرواية بحسب كاتب هذه السطور، هو ذلك العمل الإبداعي الذي يُقِّدم لنا مادة الحياة، التي يتوقف أمامها الزمن ليفكر، والإنسان ليستعذب الحزن. إنها استقصاء شفيف لتفاصيل وخلفيات النسيج العقائدي، والفلسفي، والسياسي لعالم نعيش فيه، ونعمل على التعريف به جغرافيًا وتاريخيًا وأيديولوجيًا، دون أن نعرفه حقًا.

وما بين هذا وذاك، نستقصي نحن القراء أثرَ الصدفة والعبث في هذا العالم.

إن ولادةً جديدةً لِلنَّص في ذهنِ القارئ، هي أفضل الجوائز عند المبدع، الذي يحلم بأن تخلق سمكته محيطًا وأن يصنع القراء من قاربه مجذافًا.

من جهةٍ ثانية، يبدو لي القارئ مخيفًا وسخيفًا؛ لأن أحكامه المتواضعة وأهواءه النزقة أحيانًا قد تجور على جماليات الأدب، فتظلم مبدعًا ما بالضربة القاضية!

إن وجدتم الجمال، لا تقتلوه بالتجاهل.

أتمنى لكم قراءة تجمع بين الفائدة والمتعة.

-----

من مقدمة كتابي "سيرة الغبار"


ردود

Name

إعلام,20,الحكواتي,234,المحروسة,299,بشر,139,رياضة,105,سينما,11,مؤلفات ياسر ثابت,90,مروج الذهب,164,مساخر,51,وطني الأكبر,27,
ltr
item
قبل الطوفان: سيرة الغبار
سيرة الغبار
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEjfXhwR3wBaMoye_zYhFTP_ZDt2ifrzIfLM4Nf9_toY7oGDjdzPIhG2A_1Odfx98FQP7WwnMgbPOho1SjadANF8Ol6kqzwDcC2to-I7YZbISK0qZKMEoBtJCq5-3AMUrtriUJUD0Mo8-nZVSlzn79IJEoca5q2_tH-5VeDN7ZUgk2LCKCtxSFVfDkoUVEVU/w400-h276/%D8%B3%D9%8A%D8%B1%D8%A9%20%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%A8%D8%A7%D8%B1%20-%20%D8%A7%D9%84%D8%BA%D9%84%D8%A7%D9%81%20%D9%83%D8%A7%D9%85%D9%84.JPG
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEjfXhwR3wBaMoye_zYhFTP_ZDt2ifrzIfLM4Nf9_toY7oGDjdzPIhG2A_1Odfx98FQP7WwnMgbPOho1SjadANF8Ol6kqzwDcC2to-I7YZbISK0qZKMEoBtJCq5-3AMUrtriUJUD0Mo8-nZVSlzn79IJEoca5q2_tH-5VeDN7ZUgk2LCKCtxSFVfDkoUVEVU/s72-w400-c-h276/%D8%B3%D9%8A%D8%B1%D8%A9%20%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%A8%D8%A7%D8%B1%20-%20%D8%A7%D9%84%D8%BA%D9%84%D8%A7%D9%81%20%D9%83%D8%A7%D9%85%D9%84.JPG
قبل الطوفان
https://yasser-best.blogspot.com/2024/02/blog-post_62.html
https://yasser-best.blogspot.com/
https://yasser-best.blogspot.com/
https://yasser-best.blogspot.com/2024/02/blog-post_62.html
true
5099734155506698511
UTF-8
تحميل كل الموضوعات ليس هناك أي موضوع مشاهدة الكل تابع القراءة تعليق مسح التعليق حذف الناشر الرئيسية الصفحات الموضوعات مشاهدة الكل اقرأ أيضا قسم أرشيف ابحث كل الموضوعات لم يتم إيجاد موضوع يطابق بحثك عودة إلى الرئيسية الأحد الاثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت الأحد الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت جانفي فيفري مارس أفريل ماي جوان جويلية أوت سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر جانفي فيفري مارس أفريل ماي جوان جويلية أوت سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر اللحظة قبل دقيقة $$1$$ قبل دقيقة قبل ساعة $$1$$ قبل ساعة أمس $$1$$ قبل يوم $$1$$ قبل أسبوع قبل أكثر من 5 أسابيع متابعون تابع محتوى مشروط اضغط لفك التشفير انسخ الكود ظلّل الكود تم نسخ الكود في الكيوبرد لم يتم نسخ الكود/ النص, اضغط [CTRL]+[C] (or CMD+C with Mac) للنسخ