تاريخ الغناء الشعبي: من الموال إلى الراب

  تبقى الأغاني والموسيقي بأنواعها المتعددة، وألوانها المتباينة صورة مُعبِّرة عن ثقافات الشعوب، تعكس تطورهم وتُجسِّد أحاسيسهم، وطموحاتهم، وكذ...

 

تبقى الأغاني والموسيقي بأنواعها المتعددة، وألوانها المتباينة صورة مُعبِّرة عن ثقافات الشعوب، تعكس تطورهم وتُجسِّد أحاسيسهم، وطموحاتهم، وكذلك مشكلاتهم خلال فترات زمنية مختلفة.

وكطبيعة باقي الفنون، تسير الأغاني والموسيقي في طرق قد تغُيِّر من لونها، لتشهد الكلمات والألحان تطورات من عصر لآخر، وقد يكون ذلك استجابة لتغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية تلحق بالمجتمعات.

ألقى هذا التغير بظلاله على الأغنية المصرية، فمن هنا كان انطلاق الأغنية الشعبية، مع ألوان غنائية كثيرة قبل قرن من الزمان، ولكن مع مرور الزمن اختلف مفهوم هذه الأغنية بعد أن كانت مقتصرة على الأشعار والكلمات التراثية، والتمسك، بالحد الأدنى، من المعايير التقليدية للغناء، لتخرج لنا أشكال مثل «المهرجان» الذي أثار حالة من الجدل في المجتمع المصري.

بالمثل، جاءت أغاني «الراب» و«التراب» لا لتفسير المجتمع، بل لتغييره!

يرى مغنو الموجة الجديدة أنه حان الوقت للتعبير عن البسطاء والمهمشين، وإزالة التصورات الزائفة عن الناس في الأسواق والأحياء الشعبية والأزقة. وربما لا نتجاوز الحقيقة إن قلنا إن هؤلاء المغنين يرون أن الغناء في العالم الواقعي أهم بكثير من أن يُترك شأنه للأصوات الطربية والموسيقى التقليدية!

قد يرى البعض في هذا الاحتجاج الغنائي شبهة ركاكة أو ضعف قدرة في الأداء بدون نشاز أو حتى نوعًا من الغناء الهزلي بلغة متداولة ومستهلكة أكثر من اللازم. إلا أن هذه الأغاني على بساطتها هي في واقع الأمر تمر دٌ واحتجاج على «عالم المُثل» بطريقة لا تخلو من السخرية أو الإحالة على ما هو بذيء ومثير للإحراج.

لقد نسفت أغاني «المهرجانات» و«الراب» فكرة الحد الفاصل ما بين الفن «الرفيع» والفن «الشعبي»، وانتقلت بالجمهور من الرغبة الواعية إلى الرغبة المكبوتة، بمختلف تمثلاتها، وعملت على إطلاق سراح الثقافة الشعبية من الحدود المفروضة عليها. صار بوسع هذه الأغاني أن تتناول أية ظاهرة أو مسألة أو موضوع بريئًا كان أم لم يكن، مستبعدًا ومهمشًا ومحرمًا أيضًا. لهذا فإن قدرتها على التأثير سواء من حيث سهولة تداولها وانتشارها، أو من حيث كونها قصيرة وقادرة على إيصال الرسالة بعبارات قليلة جدًا، تجعلها أداة تغيير بالغة التأثير.

لندع المستوى أو المحتوى جانبًا، فهذا أمرٌ محل نقاش وجدل، لكن المحتوى هنا له تأثيراته الملموسة على أفكار المجتمع وسلوكيات أفراده، وهو ما يجعل هذه الألوان الغنائية الجديدة محل اهتمام كثير من الباحثين، ومنهم كاتب هذه السطور.

وإذا كان من الضروري فهم آلية تأثير هؤلاء المطربين في جمهورهم وكيفية انتشارهم عبر «التكاتك» والأفراح وبعض الفضائيات الشعبية، والشباب الذين يستمعون إليهم في الشوارع والأزقة، فإنه من المهم في الوقت نفسه أن نقف على هذه الظاهرة بما لها وما عليها، بعيدًا عن أي مواقف أو أحكام مسبقة، لتوظيف هذا التطور أو تعديل مساره، بدون إنكار أو نفي أو إقصاء.

إن الغناء الشعبي هو مغامرة بالخيال، عابرة للمعاني المباشرة، تقف على جسور ممتدة الأمكنة والأزمنة، لتحتفي بالتناقضات البشرية، وهي تحاول في الوقت نفسه امتلاك صوتها المائز في عالم الغناء.

تخلق الأغنية الشعبية رعشتها الغنائية من خلال استثارة رغبة المستمع في تغيير القواعد القديمة للحن والكلمات والأداء، وهي تصقل جاذبيتها بطرق أقرب إلى روح الشارع والحياة في المناطق الشعبية وأحيانًا العشوائية. قد تتحول هذه الأغنية إلى سلسلة من الفجوات والشظايا، وربما يراها البعض شكلًا متناقضًا من الفخر بالذات أو الرثاء، أو عدًا تنازليًا لمزيد من الأوقات الخالية من الهموم؛ لذا يمكن القول إن الأغنية الشعبية كاملة، وتبحث في الوقت نفسه عن الاكتمال، في إطار سعيها لتأسيس مرجعية لن تكون قادرة على تحقيقها. هذه هي نقطة جاذبية الأغنية الشعبية وربما نقطة ضعفها الأساسية في الوقت نفسه.

في المقابل، يجب أن نُلقي نظرة أكثر تعمقًا على الغناء المتمرد باللحن والكلمة والأداء على القوالب الجاهزة والأنماط الاجتماعية السائدة.

على مر العصور اتخذ الغناء أدوارًا له تتعدى الترفيه والطرب إلى التعبير والاحتجاج. ولننظر مثلًا إلى «البلوز» الخارجة من رحم العبودية في الجنوب الأميركي، ولننظر إلى المساهمة التي قدمتها أغاني الاحتجاج إلى حركة الحقوق المدنية عندما نال السود الحرية، وليس المساواة. ولنستمع إلى أنشودات المصري سيد درويش والجزائري مغني الثورة علي معاشي واللبناني مارسيل خليفة كمثال للموسيقى باعتبارها محركًا جماهيريًا.

غير بعيدٍ عن هذا التوجه، نفتح في هذا الكتاب ملف الغناء المتمرد لدى نون النسوة في مصر والعالم العربي، من الراب إلى أغاني الاحتجاج الاجتماعي ذات الطابع النسوي أو المرتبط بالنوع أو الجندر.

إن تطور الغناء -بالإيجاب أو السلب- قد يكون تجسيدًا لما يسمى الحداثة السائلة -بحسب البولندي زيغمونت باومان- وحالة السيولة والتشكل والتغيُّر التي يشهدها المجتمع والفن والفكر، وربما ارتبط بتحولات عالم ما بعد الحداثة -بحسب الفرنسي جان فرانسوا ليوتار- أو أنه دليلٌ آخر على أننا نحيا مجتمع الفرجة أو الاستعراض-وفق الفرنسي غي ديبور- وأخيرًا، قد يكون ذلك نموذجًا لعصر الزيف وفق الفرنسي جان بودريار، أو حتى مثالًا على ما وصفه الفيلسوف الكندي آلان دونو بأنه نظام التفاهة.

أيًا كانت الأوصاف أو المصطلحات، فإن مراحل تطور الأغنية وتحولها، هو جزء من الدراسات الثقافية والاجتماعية التي ينبغي الاهتمام بها لنزع أقنعة الغيبوبة التاريخية عن عقولنا وعيوننا وأحاسيسنا المضطربة.

ختامًا، يظن البعض أن «ويجز» كظاهرة لا يستحق كل هذا الجهد والتركيز، وأن هناك من هم أولى بالكتابة عنهم، لكن الأرقام والمعلومات وما وراء الكواليس والجيل الذي يسمعه، يجعلون من دراسة قصته أمرًا ضروريًا.

يبدو أننا بحاجة ماسة إلى صدمة الحقيقة حول واقعنا وإنتاجنا الفني والثقافي والفكري، وأن نعمل على تفكيك أوهام التمركز حول الذات المثقلة بتصوراتها المفرطة عن ذاتها، كبداية لفهم التحولات في عالم الفن والفكر والثقافة في مصر والإقليم العربي.

وإذا كانت ظاهرة أغاني «المهرجانات» و«الراب» و«التراب» لم تخضع للدرس والبحث حتى الآن، كعلامة على واقع التغيرات الاجتماعية، فإنها تبقى موضوعًا بالغ الأهمية للكشف أيضًا عن التغيرات في تركيبة الثقافة الشعبية، والذوق العام، والمزاج الفني، والسلوك الاجتماعي.. إلخ.

أتمنى لكم قراءة تجمع بين الفائدة والمتعة.

------

من مقدمة  كتابي

 "تاريخ الغناء الشعبي: من الموال إلى الراب"، دار دوِّن، القاهرة، 2023