في الموسيقى، تصنع جنتك وترى العالم بعيني طائر. هي بسملة الطفولة وعناق الشباب ورائحة عمر الأربعين وحلم سنوات الخمسين وما بعدها. وحين يبدأ الع...
في الموسيقى، تصنع جنتك وترى العالم بعيني طائر.
هي بسملة الطفولة وعناق الشباب ورائحة عمر الأربعين وحلم سنوات
الخمسين وما بعدها.
وحين يبدأ العزف تتذوق رحيق العالم.
في الغناء تتعلّم تجويد الحنين وقراءة دفاتر الشوق والأمل.
اللحن الجميل سفينةٌ تتهجى عذوبة النهر، والموسيقى الحالمة
نخلةٌ فرت من الطوفان.
والأغنية المدهشة ترتل النوتات وتُنشِد النصوص التي ترتج في قلب
الشاعر.
تشبه الموسيقى انعطاف الليل، وفائض الحنين، والذكريات غير
المتوقّعَة، ونبوءات الشغف، وحرائق الأفكار والمشاعر والأشياء والعري الأعمى.
إنها عنوان الأمل وفي أوقاتٍ أخرى مرآةٌ هائلة لليأس. إيقاعاتٌ
تتوسّل المرحَ والخفّة واللّوعة الإنسانية، أو تنشدُ الحرية وتتغنى بالأبطال.
وكما أن القصائدُ جراحُ الشجاعة، فإن الموسيقى هي مقياس المتعة
وميزانُ الألم. هي طائر الفينيق الذي يستضيف غابة الحياة.
في الموسيقى نتذوق نكهة الحياة، ونكتب سيرة الأرض، ونمرُّ تحت
قوس البذرة وندركُ طفولة النهار. هكذا نتجاوز مرحلة الأذن والطرب، لنصل إلى مستوى
الشفافية والانعتاق.
إنها إذابة كاملة للشعور الإنساني، وتفكيك للدهشة، وشعور
بالتأمل على كل ما عداه من حواس، ولحظات من التواري الطوعي خلف أفقٍ غير منظور.
مع كل لحن أو نغمة، تنحو الموسيقى ليس فقط إلى الإطراب
والتولُّه والرقص والانتشاء، كما هو ديدن بعض ألوان الموسيقى وأشكالها، بل أيضًا
إلى الإصغاء العقلي، فهي منعرجٌ للروح لتتأمّل العالم وعلاقته بالأبدية والزمان
والحركة والفناء.
تكاد تحسُ في الإيقاع الساحر بدفقةٍ شعورية عارمة تُجمِّد
الأشياء وتُجبر الجميع على الانتظار.
الموسيقى، إذن، تضيء جنبات الغرفة المظلمة في أرواحنا وحياتنا،
وتفتح الغرف الموصدة على الدوام.
ولا عجب أن نجيب محفوظ، أديب مصر الأشهر- ذهب في هذا المدى إلى
آخره، حين قال في مقالة نقدية له (مجلة «الرسالة»/العدد 635/القصة عند العقاد، 3
سبتمبر 1945):
«الفن -أيًا
كان لونه وأيًا كانت أداته- تعبيرٌ عن الحياة الإنسانية، فهدفه واحد وإن اختلفت
كيفية التعبير تبعًا لاختلاف الأداة، وكل فن في ميدانه السيد الذي لا يُبارى، ففي
عالم اللون التصوير سيدٌ لا يعلى عليه، وفي دنيا الأصوات الموسيقى سيدٌ لا يُدانى
وهكذا، فالفنون جميعًا تتفق في الغاية وتتساوى في السيادة كل بحسب مجاله، وهي في
مجموعتها تكون دنيا الأفراح والمسرات والحرية».
في الكتاب الذي بين
أيدينا، موضوعات وشخصيات بذلنا جهدنا في أن نأتي فيها بجديد يضيف إلى مكتبتنا
الموسيقية والغنائية. فمن الحديث عن «شيوخ
الطرب» إلى «طرب العوالم»، مع إلقاء الضوء على
أسماء وقامات مهمة في عالم الموسيقى والغناء في مصر والعالم العربي، مثل «كامل الخلعي.. أستاذ الموشحات»،
و«سيد
درويش.. والألفاظ الأجنبية»، و«منيرة المهدية.. سلطانة الطرب»، و«نجاح سلام.. الكلام فوضى والغناء نظام»، وصولًا إلى «رياض السنباطي..
المجدد»، و«بليغ حمدي.. كل
هذه الموهبة»، و«عمار الشريعي.. ملك الموسيقى التصويرية»، و«جمال سلامة.. ساحر
الألحان»، و«تيغرمان..
موسيقار شارع شامبليون»، إلى جانب «محمد عبده صالح»، و«نبوية سعيد.. الملحنة الأولى»، و«ياس خضر.. صوت الأرض»، و«محمد الأمين.. روح تجديد الموسيقى السودانية» و«صالح وداود
الكويتي.. مجد الأغنية العراقية».
ونفتح ملفات تستحق الالتفات إليها، مثل «أغاني رمضان قبل الإنترنت»، و«الدويتو.. ازدهار وانهيار»، ونموذج «أجر الفرقة»، والفرق «بين الشعارات والأغاني»، ونكشف حكاية «أصبح
عندي الآن بندقية».. مونتاج السحاب»، ونتجه غربًا إلى «الكناوة».. استحضار الأرواح
والأجداد» و«القصبة والبندير.. الخروج
من الهامش». وبحثًا عن التأصيل،
نستقرئ ملف «فلسفة الموسيقى.. من الفارابي إلى إخوان الصفا». ولا يفوتنا الحديث عن الموسيقى الغربية في موضوعي «فيردي.. شكاوى مؤلف «عايدة»، و«سر جاذبية ألبومات
«أعظم الأغاني».
حكايات وأسماء وملفات يمكن للقارئ
المهتم أن يلمس جوانب الثراء والتنوع فيها، وحرصها على أن يكون هذا الكتاب -على
صغر حجمه- مرجعًا ضروريًا وموثقًا في الموضوعات التي تناولها والمحاور التي تطرَّق
إليها.
أتمنى لكم قراءة تجمع بين الفائدة والمتعة.
---
من مقدمة كتابي
سلاطين النغم: من الموشحات إلى الموسيقى التصويرية، دار اكتب، القاهرة، 2024
ردود