المجد لمن علَّمنا كل دروس المكر في ليلة واحدة! نكتب عن صرخة الثأر أو الفوز في توقيتٍ قاتل، وحسرة القادمين من مقاعد البدلاء، حين يعجز...
المجد لمن علَّمنا كل دروس المكر في ليلة واحدة!
نكتب عن صرخة الثأر أو الفوز في توقيتٍ قاتل، وحسرة
القادمين من مقاعد البدلاء، حين يعجزون عن تغيير النتيجة.
عن عشق الهزائم
الرائعة والخسارة بشرف.
عن المدير الفني
الذي يؤمن بأن نواة اللعنة تشييد المتاهة!
عن المدرب المتبصّر
الذي يكتفي بابتسامةٍ كاذبة.
عن الهداف الذي
تتلقفُهُ جهاتُ العالم كلها، وكلما هز شباك المنافسين ارتفعت سبابته إلى فمه.
عن حارس المرمى الذي أضاع الكرة مع قفازيه في
مكانٍ ما، فقرر أن يصبح سمكةً تحرس الماء. يطير، ويده مظلَّة هوائية تُساعده على
تجنب السُّقوطِ في ذلك الفراغ الأعلى.
عن الأهداف التي
تبقى كرسم البخار على سطح نافذةٍ باردة.
عن الكرة
البيضاء المرشوشة بالملح والفلفل الأسود، التي ما إن تراها حتى لا يعود هناك ماضٍ
أو مستقبل.
عن قلب الدفاع
الذي يتمترس بصلابة مهما حُوصِرَ بثكنة شراسة.
عن الظهير
الأيمن الذي أدمنَ احتساء النجوم.
عن الظهير
الأيسر الذي يركعُ أمام آثار الليالي.
عن الجناح
الأيمن الذي يعود بسيفه اللامع دائمًا.
عن الجناح
الأيسر الذي أخذ جناحيه وهرب!
عن صانع الألعاب الذي يخفي في جيوبه غبار الأبدية.
عن لاعبي خط
الوسط الذين تعذّب موسيقى التانغو أقدامهم.
عن البديل الناجح، الذي ينقذ فريقه فلا يحفظ
الجمهور من الآهات سوى اسمه.
عن اللاعب العائد من إصابة طويلة؛ إذ يتسوّل قدرًا
إضافيًا من المستقبل.
عن الناشئ الواعد الذي يصنع هدفًا قاتلًا، فيندفع
لتهنئة الهداف بلا شبهة غطرسة.
عن حكم الساحة
الذي يطلق صافرة طويلة تثبت صحة نظرية الانفجار الكبير.
عن حكم الفيديو،
الذي تعجّل حل اللغز فأهدر السر الأخير ببساطة.
عن حامل الراية
الذي ينظر من إبرة الليل، قبل أن يصطاد لاعبًا في حالة تسلل.
عن المعلق
الكروي الذي لا يتذكر من حروف الهجاء إلا كلمة «هدف». يطبخ أبجديتها
عشاءً للفقراء والجوعى، فينامون ليلتهم وعلى وجوههم ابتسامة رضا.
عن اللاعب
المعتزل، الذي يبدو ساخرًا من الكون ومنتصرًا على قلبه الذائب منذ زمن.
عن المرأة
الوحيدة في المدرجات، التي تشجع حبيبها المهاجم حتى معقل النجوم. بابتسامتها التي
توقف الزمن للحظتينِ بلا حراكٍ، تحلُّ ألغاز الفرح.
عن المراوغات
الناجحة التي تنتزع الآهات مثل فكاهةٍ طليقة.
عن الأضواء
الكاشفة التي تحرس الأشباح الخيّرة وأشباه النائمين، كأنها لهبٌ منسيٌّ في
البراري.
عن الدقيقتين 20
و72 في ذاكرة الألتراس، التي تُحيي أولئك الذين انفرطت أسماؤهم، منهم، في الهواء.
عن اليد المسحورة
التي تنسى نفسها على زجاج حافلة الفريق.
عن المشجع الذي
فمه حقل ألغام، وفي مشاغباته يصبح عصفورًا يلوّث عشه.
عن الحناجر التي
تهتفُ وتمضغ خيالَ النصر بكثيرٍ من التفاهات والطيش.
عن الأرواح
الحبيسة التي تتحرر في الملعب وتوقد في العشب نارًا مقدسة لا تنطفئ.
عن أصابع النقاد
والصحفيين الرياضيين التي تصرخ وجعها على لوحة المفاتيح كلما أنزل الخصوم هزيمةً
بفريقهم المفضَّل.
ونحن في كل مباراة
نهتف للمنتصر، ونحتاج إلى صَدَفةٍ نتلاشى فيها وقت الخسارة.
كل هزيمةٍ كروية
هي فرصة لترويض النفس وتعليمها كيف نكون تعساء بلُطف.
كل مباراة هي
خريف ينسدل ببطء، لكننا من كثرة النسيان نتذكرها ولو بعد حين. في مباريات رد
الاعتبار، نتعاهدُ -جمهورًا ولاعبين- في دائرة مغلقة: «قسمًا،
لن يُخرجوا رمادنا من مواقد التاريخ. بيننا وبينهم حساباتٌ تُصفِّيها النار»!
كرة القدم تشنق
كل السخافات، وتكلل أرواحَ عشاقها بالحُبِّ والمرح، وتقودهم إلى حديقة بحرية
بألوان فاتنة ومتلألئة. لا عجب إذًا، أن تجد كثيرين يرون أن لاعبي الساحرة
المستديرة هم أفضل رفاق حظوا بهم.
أما المباريات
فإن قدسيتها تكمنُ في حبكتها والدراما التي يصنعها أبطالها أو يتعرضون لها. بل إن
روعتها تنبع من واقعيتها، التي لا تخلو من عبثية تطير معها قبعة المنطق من على رأس
الأحداث!
كُلَّ مباراة،
تتهشَّم الأشياء والأفكار في الملاعب، لكن صخبَ انهيارها يبقى. هذا الصخب يبدو
كأنه يعيد تركيب الأشياء كُلِّها من جديدة.
ببطء تكبُرُ
ذاكرتنا، وتكبُرُ معها الحكايات. وحدها الكرة تُتَوِّجُ تَحُوُّلاَتِ أيّامنا
وتعوضنا عن أحلامنا الضّجِرة.
في كل الأحوال،
تعرفُ الكرة هدافها، كما تتذكرُ اللوحات المعلقة رسامها الذي أنقذها من لعنة
البياض المحايد.
والقلوب المسكونة بحُب هذا الفريق أو ذاك، تحتفي
به وتهتف باسمه، حتى وإن كان يجيدُ ترتيب الخيبات كما تُرتِّبُ أمٌ لعائلتها كل
صباح مائدة الطعام.
الحُب ثغرة في منطق العالم. بغيابه، يملأ الشك
قلبك إن وُجِدَ من الأصل.
كلُ المعاني
ينقصُها بعضُ المعنى، لكن الكرة تعوّضنا عن أي نقصان. إنها فخُّ الحنين الذي
يُزيلُ اللحظاتِ المريرةِ من مكانها ويرسمها بلونٍ مُختلف، ويعيدُ موضعتها كما في
البورتريهات القديمة التي تبدو لنا وكأنّها تشعّ ببريق السعادة.
السطور التي بين
أيديكم تلغي المسافة بين كرة القدم والكتابة، لتمجّد الكرة وأبطالها، وتخترق
الدائرة الخفيّة للرتابة اليومية، وتضيف إلى حياة القراء دقائق جديدة من الجمال
الأبدي. تمامًا مثل اللعبة المتقنة، تسرقنا الكتابة الجيدة من أنفسنا، لنصفق بعدها
بالأيدي أو هدير الأقدام على الأرضية؛ لأن الفرح أعمق من غَمِّ القلب.
فإن نجحَ هذا
الكتاب في تحقيق جزء من الهدف من كتابته، واستحضار الماضي الآخذ في التلاشي بلطف،
وإيجاد الكلمات التي تُبلّل القراء حتى العظم وتعبر بهم الخط الفاصل بين الحقيقة
والخيال، سأكون قد حققتُ أحد أحلامي في عالم أدب كرة القدم.
هذا الكتاب لأولئك
الذين لم يفوزوا يومًا، قبل أولئك الذين احتفلوا بالألقاب وهم يرددون أغنية جون
لينون «السعادة مسدس
دافئ» Happiness Is a
Warm Gun
وهو أيضًا لكل
الذين لديهم ضعفٌ عصيّ على العلاج تجاه الأيقونات الكروية.
وفي أدب كرة
القدم، تكون الكتابة حفيفًا لغويًا يهز الجماهير. وفي عالمٍ مسكون بالصراعات
والحروب والأزمات والمجاعات والجفاف، يخرج بنا أدب كرة القدم مثل ذاكرة فرح، أو
رشة عطر، أو صرخة احتفال تهزم هدير المنابر التي تسكت دفعة واحدة بعد الخيبات
الكبرى.
في حياة
المشجعين آلاف الأحداث والمناسبات والمآسي والأفراح، وآلاف اللحظات من المطر
والشهوة والعطش والأشباح الصديقة، لكن ما يبقى طويلًا هو تلك الزهرة التي تتفتح
بالأمل: كرة القدم.
هنا، أتذكر نيابةً
عنّا جميعًا، وأرجو أن أكون قد نجحت في ذلك.
أتمنى لكم قراءة
تجمع بين الفائدة والمتعة.
----
من مقدمة كتابي "جنرالات كرة القدم: من مارادونا إلى هالاند"
مرحبا أستاذ جمال,
ReplyDeleteاسمي ياسين الزكراوي، طالب باحث بماجستير الصحافة الرياضية بالمعهد العالي للاتصال بالرباط، المغرب، لقد أثارني كتابك بعنوان جنرالات كرة القدم، وبصراحة بحثت عنه في مكاتب الرباط لكنني لم أجده، أتمنى لو تبعث لي نسخة رقمية منه لو سمحت، لأن مصاريف الشحن باهضة جدا، مع تحياتي و احترامي لحضرتك.
مرحبًا بك، اسمي ياسر ثابت وليس جمال. هذا الكتاب لا يضم مادة تصلح للبحث الأكاديمي، بل هو من نوعية أدب كرة القدم، الذي نشأ واشتهر في أميركا اللاتينية. مودتي
Delete