حكمة السيقان

  كلّما كتبنا أكثر، كلّما أصبح العالمُ أكبر. كلما كتبنا أعمق، قتلنا العالم.. ولو بطريق الخطأ. والحروف الأنيقة تملأنا بذاكرة الأحلام، مثل شمس...





 
كلّما كتبنا أكثر، كلّما أصبح العالمُ أكبر.
كلما كتبنا أعمق، قتلنا العالم.. ولو بطريق الخطأ.
والحروف الأنيقة تملأنا بذاكرة الأحلام، مثل شمسٍ تزور بيتـًا فارغـًا، لترقص في دوائر الظلام.
هذه الخلخلة المفاجئة لروحك، التي تجيش بمكنونها ألقـًا، هي موجز الفن والأبدية.
وككل كاتبٍ يكتب بمداد روحه، كنتُ هناك، في قلب الزمان وجغرافيا المكان، أفتح نوافذ النص على المعاني التي تموء كقطةٍ مدللة، أستعيدُ الغائبين والمفقودين، وأجمع بينهم لكي يستمروا في الوجود. كتبتُ لأعطي الكلمة لمن حُرِموا منها، وحرصتُ على ألا أهدر وقتـًا في أي شيء لا طائل منه، وعملت على أن أنجز وأشارك وأعمل بكل تنظيم وانضباط؛ لأن الحياة بلا دور كأنها موتٌ مؤجل.
في حياةٍ شديدة التّقسيم كحجرات، كان عمري كله مع الكتابة افتتانـًا وحُبـًّا وهواية وممارسة وألفة. هي قلقي ونسكي ومحياي وأماني الوحيد. ومهارة الكتابة تشبه الأذن الموسيقية، إما أن تملُكها أو لا.
وبعدد أقلام الرصاص التي كنت أبريها لتتأنق وتتألق على الصفحة البيضاء، وأقلام الحبر الجاف التي انفجرت في جيوب قمصاني، وأجهزة الكمبيوتر التي غزتها فيروسات خبيثة أو سرق محتوياتها قراصنة إلكترونيون، كانت كتاباتي تتدفق عن دهاليز الوحشة، ودمي الصالح للملاحة، وانشطار العالم على الشاشات وفي شقوق روحي، وأريكتي المفضلة التي صارت بفعل الزمن حافة الهاوية.
فخورٌ بما كتبت، ومشتاقٌ لما سأكتبه، كطوابع الآمالِ قبل أن تصل إلى أصحابها، وغير نادم على انشغالي بالمعرفة عن أهل الوقت الضائع. هل كنت سأُنجِزُ نحو سبعين كتابـًا، لو سرقتني المقاهي وغيتوهات «المثقفين» الغارقين في الانغماس الذاتي والإفراط في التعالي والأدلجة؟!
لم أكن في أي وقتٍ داخل سياق أية سلطة أو مؤسسة ولا ساعيـًا إلى شهرة، رغم أن الصحافة مهنتي والصحفيين زملائي.
بقيتُ مثابرًا بلا كلل، أعتصم بالإبداع في مواجهة الخراب. ظل ظهري بعيدًا عن مأدبة الانحناء، وأولئك الذين ينحرفون باللغة إلى المداهنة والتسول. كتبتُ وجابهتُ بما أعتقده، وضبطتُ المسافة جيدًا بيني وبين المؤسسة الثقافية، كي أكتب دون قيود أو ضغوط تسرقُ أصابعي وتصادر أفكاري وتخالف ضميري.
عشتُ أعمل في صمت، بعيدًا عن الضوضاء، بعيدًا عن الصراعات، ميالًا للعزلة المنتجة غير الممرورة، معافىً من سموم الضغينة والحسد.
لستُ مدينـًا لأحد، إلا للقارئ الذي يبحث ويفكر ويقارن.
دافعتُ عن الأدب الحق، وعن الكتابة البليغة، ولم أعبأ بما لاقيته من العصف، والخسف، والتجاهل، والنكران.
في غرفة تُغالي في السكون، أفتحُ مظلّة كلماتي؛ لأحتمي من الخيانات وخيبات الأمل، وأكتبُ محمومـًا، مثل وحش مسيطر، قرر أن يصبح وديعـًا في حضرة الجمال.
أكتب؛ لأن الحروف مداراتٌ هائلة ومجرات يجهلها البشر. لأن الزمن القديم في انتظاري. أما الزمن الجديد الشره، فلا يعنيني في شيء. لم أترك مجالًا من مجالات المعرفة والثقافة لم أكتب فيه أو أؤسس له، في محاولة لصوغ الأفكار وإدراك الأسرار والبحث عن المعاني.
أكتفي بأن أكتب عمن أحِبُّ، وأن يعرفوا أنهم دون غيرهم المعنيون بما أكتب.
كأنني رجلُ الأقدار، أتخِذُ من خلوتي سبيلًا إلى محاكمة الحياة، واختبار قدرتي على تحمل البعاد والغياب. أحمل سنواتٍ فارغة في قلبي
أسير، حيث وقع مني قلبي، علَّني أعثر على ما ضاع مني قبل دهر.
ربما كنتُ كمن فرط الألماس في كل صوب؛ إذ أبدع في صنعته، وأهمل موجبات الصيت، تاركـًا للأيام أن تتولى عنه تعديل المراتب وتصويب القصور، لكنها، للأسف، لا تفعل ذلك دائمـًا.
لا بأس، فبعض الجوائز والعطايا عَسَلٌ مُسَمم.
شجرة الخوف ليس لها ثمار ولا تسكنها إلا عصافير لقيطة. وحين نكتب بأمان الخائفين، لا تنبت على شجر حروفنا ثمار، وتمضي كلماتنا الضامرة في دوائر الهواء، كأنها توائم العدم.
أن تبقى في ظل شجرةٍ خيرٌ من أن تجاور العالقين بين الأغصان أو فوقها أو ما بينها، مثل شعرة زائدة بين الحاجبين.
ثمة مغزى عميق للطريق الوعر الذي اختارته حكمة المقادير للمرء، خاصة حين يُعْلِنُ الشَّراسَةَ دِينـًا لَه، في وجه قُطَّاعِ الطرُق.
وفي الكتابة نخوض حروبنا الكبرى، حتى وإن لم يشعر بنا كثيرون. إنها معركة الذات أولًا وقبل أي شيء آخر، ونفوسنا الضارية هي ميدانها الأبرز. الكتابة هي الحياة في نسختها المكتملة الباقية المثالية، في مقابل الكلام الشفهي الناقص الفاني.
ولذا اخترتُ العزلة لأتتبع ضجيج الأسئلة الحارقة، وأحفر بمعاولي المتعددة المسكوت عنه، وأراجع المسلمات، وأبتكر لغتي الخاصة.
أعلمُ جيدًا أن ضجيج العاديين قد يشوش على حضور المتفردين، ولكن: من قال إن الأدب الحقيقي يحب الأضواء. إن المبدع الحقيقي ضميرٌ لا يقبل المساومة، وسلاحه اللغة التي تترفع عن الصغائر، وترفض الشللية أو تسليع الفكر والأدب.
يتراءى الكاتب المتمكن خلف كلماته، بأفكاره المائزة، وإشاراته الضافية، فلا تتنازعه خصالُ الملائكةِ ولا تستحوذ عليه أهواءُ الشياطين. إنه يظهر هنا كإنسان، فلا يعود مصبوبـًا كقناع، ولا يتجلى كإنسانٍ يشغله سؤال: كم شوشةً شائبة زادت في الرأس؟
إن الكتابة هي طينُ الحياة وترابها ومادتها، وهي غامضة، لها حياتها الخاصة، المستقلة -بالطبع- عن مؤلفها. بمجرد كتابتها، فإنها تنتمي إلى الجميع. وهي تكتمل بالدأب والصقل والجهد المخلص؛ لأنه إذا كانت هناك فجوة بين الإنسان وموهبته فلن يتحقق له إلا شيء من البراعة الهشة التي لا تصل إلى مرتبة النبوغ.
إننا نكتب لنتجاسر، ونصطاد الأفكار والخواطر شوارد سابحة، وتكتمل زوايا الرؤية. ونحن، عديمي الثقة بالحياة، نتحايل على الموت بالكتابة.
والقصيدة ليست كلبـًا يتبعك، وإنما هي فمك الجديد، الذي لا ينطق إلا بالأسماء اللائقة والأفعال المتمردة.
ما كل كاتبٍ كتوب، يجيد حرفة الخيال، وتنام على أطراف أنامله الحكايات المستحيلة. وحدها الاستعارات المتقدة، التي ترسم بفرشاةٍ مرهفة ابتكاراتٍ وتجديداتٍ مفاجئة، وتعبث بالعظمة كما تحطم الرتابة، تمنح سيد الحروف أوسمة.
والحروف ترتدي قلبَها فوق أكمامِها، وتتهيأ للكلماتِ بإشراقاتها، وتُطعِم الجُملَ نوتة موسيقية تسبح خطوطُها في الهواء، قبل أن تصنع من العبارات نغمات سريعة متعاقبة.
والنصوص تخلق نفسها.. نحن فقط نمنحها قبلة الحياة.
ربما تقول الفكرة للتي بعدها: هذا صوتُ صلواتي يصِل إليكِ، لئلا تسقطي في فخ سطر ناقص.
قد تتجسدُ أمامي المشاهد فجأة، فأعمل على كتابتها أو استعادتها، ساعيـًا إلى تنظيم فوضاها وصوغ الكلمات اللائقة بها.
حين تكتب بحُبٍّ، تولد أقمار إضافية في سماوات الحروف.
وعاشقُ الكتابة هو ذلك الخيَّاط الذي يخيط ما سيتلاشى، بدون مهارته. إنه يجمع بتأنٍ الأجزاء المفقودة للوعي، ويدرك أهمية المقاربات والمقارنات، ويطرحها بلا خوفٍ يُثقِلُ كاهله، حتى وإن كان يسأل نفسه مرارًا: من أين يأتي كل هذا الحزن؟
وأنا زرتُ تحولاتي، والتباسات الألم اللامع الجليّ، واصطدتُ هواءً يرتعش صفاءً، حتى رشقتني الرغبات بوردتها السامة. على امتداد سنوات عمري، ساعدت الحروفُ جروحي على الالتئام.
حين كانت الكتابة بذرةً بالكاد بزغ أخضرُها من شقوق الروح، وجدتُ البوصلة تدل على الجهة التي سأسير فيها لاحقـًا.
طغى «البحث عن التاريخ المفقود» على مشروع الكتابة عندي، سواء الكتابة البحثية أو الإبداعية. أردتُ أن تكون كتاباتي السياسية وبحوثي التاريخية عينـًا واعية في انتقائها وانتقادها، واخترتُ أن تُقدِّم كتاباتي الإبداعية لغةً تعتمد المتعة وتبتكر الجديد ولا تستسلم للقبح السائد ولا للتفاهة الرائجة. الأعمال الأدبية الذهنية قد تثير سخطك، وقد تقودك إلى الجنون أحيانـًا، لكنها حتمـًا ستحرضك على التفكير والمقاومة.
لم يطبعْ التزامي الموضوعية في تقصي موضوعاتي الأسلوبَ بطابع الجفاف، بل كنتُ حريصـًا على أن يكون الأسلوبُ ممتعـًا، شائقـًا يطرِّزُهُ السردُ الجميل، والطرائفُ المدهشة المسليَّة، مما يضيف إلى قامة أي كتابٍ ارتفاعـًا آخرَ من النجاح والـتأثير. الأمر متعلقٌ بالمخيلة، فأنت أبكم، لا يسمع أحدٌ صوتك إلا حين تُبحِرُ بك الأفكارُ القرمزية في جزيرة الخيال.
هكذا تكون الكتابة معابر لتنشيط الذاكرة وحمايتها من صدأ النسيان.
ربما نجد أطيافـًا لذلك التناغم بين النص السردي والإيقاع في كتابات سابقين، لعل أبرزهم عربيـًا في نظري الروائي يحيى الطاهر عبدالله، الذي غامر في نصوصه حتى توهجت لغته بتلك الشحنة السرية من الموسيقى والشعرية. ويتعين هنا أن نذكر بكل التقدير تجارب إميل سيوران في أوروبا، وإدواردو غاليانو وخورخي بورخيس في أميركا اللاتينية.
الكتابة هنا دليلٌ لاستعمال الحياة عبر أدب الشذرة، الذي يبدو غير بعيد عن الممارسة الشعرية، فالشذرات تشترك مع القصيدة في الوصول إلى معانٍ غير مطروقة، عبر الكثافة والتخييل والاستعارة وغيرها من حِيَل الشعر وتقنياته.
من اللزوميات أن تكون النصوصُ مشحونة بالألق لتصريف كل الطقوس، وإنقاذ كل ما يمكن أن تصادفه من الانزلاق والوقوع في التباس القلق والغموض المُر. بمعنى آخر، يجب أن تنسج عباراتٍ تُقوي دوافعك نحو الوجود.
بالنسبة لي، الأمر جدُ بسيط. أحِبُّ أن أضع ميزانَ الإبداع على الطاولة، وأترك جماليات الأسلوب تَزِنُ نفسها. أما المبدع فيجب أن يبقى رشيقـًا كمتسلق نخيل، وحكيمـًا كنبيّ يدعو إلى ركوب سفينة النجاة، بلا سهام مسمومة ولا صيحات معارك.
إن ثمة بناء إيقاعيـًا لكل نص إبداعي. فهو مؤلَفٌ من موسيقى الصورة واللغة، والمعنى الذي لا ينكشف بمقدار ما يقلق، مثل لذة المحرّم. وإذا كان جلال الدين الرومي يرى أن «الموسيقى أزيز أبواب الجنة»، فإن الكلمات هي أجمل أدوات العزف.
كأن القارئ يقول للنص: ارمِ عليّ قميصك لأبصِر!
هكذا يكون الإبداع المسكون بالحُبِّ بابـًا ينفتح إلى الداخل؛ لأنه لا أحد يرد إليك قلبك الساقط على عتبة رسالة مغزاها: أحبُّك!
إن الكتابة فعلٌ وليست رد فعل، منها الزائل الملاحق للأحداث، وأبقاها الذي يتسلل للجذور، والبون الشاسع بينهما يتسع للجميع. هذه الكتابة الحُرة ترفع شعار عِش طويلًا، بأناقة حرفك وكبرياء معانيك.
ولا بأس من الإقرار بأن الكتابة هي «اليوغا» التي يمارسها الكاتب لكي يستمر في الوقوف متوازنـًا على الحبل المشدود لهذه الحياة.
الكتابة الجيدة ليست الكتابة الموسمية، تلك التي تلهث وراء حدثٍ ما، ليفتح الجميع في نسقٍ ممل صنابير «المكلمة» عن الموضوع والإفتاء بشأنه، في غيبوبة عمومية لا شفاء منها. إنها ذلك الإيقاع المنضبط الذي لا يبالي بمحترفي التملق والتزلف وإطلاق الأحكام الطنانة، ويثق صاحبه بإيمانٍ راسخ أنَّ الحروف آيته الكبرى، فيما الذين يكادون لا يقولون أي شيء على الإطلاق يروّجون لأنفسهم بوصفهم كُتّاب المجد والصدارة. إنها الكتابة التي تعزز مناعة الكاتب والقارئ على حدٍ سواء.
فاختر ما تصنع!

أتمنى لكم قراءة تجمع بين الفائدة والمتعة.


من مقدمة كتابي: حكمة السيقان، منشورات إبييدي، القاهرة، 2020

ردود

Name

إعلام,20,الحكواتي,234,المحروسة,299,بشر,139,رياضة,105,سينما,11,مؤلفات ياسر ثابت,90,مروج الذهب,164,مساخر,51,وطني الأكبر,27,
ltr
item
قبل الطوفان: حكمة السيقان
حكمة السيقان
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEi5EckexBvcpjJ7LDs0Sl2-E4__auLltEhqpeprcVTSvgaeD5UZ_vyuOoFTNNevtwxsIXpLjJWkMVHpuNpj1l6GseMtVdGdy_VN9mruBDfPV7qydQHg82_29_8pboHdMtvUbakrdSheE5qq/w640-h437/full+cover+Digtal+-+%25D8%25AD%25D9%2583%25D9%2585%25D8%25A9+%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25B3%25D9%258A%25D9%2582%25D8%25A7%25D9%2586.jpg
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEi5EckexBvcpjJ7LDs0Sl2-E4__auLltEhqpeprcVTSvgaeD5UZ_vyuOoFTNNevtwxsIXpLjJWkMVHpuNpj1l6GseMtVdGdy_VN9mruBDfPV7qydQHg82_29_8pboHdMtvUbakrdSheE5qq/s72-w640-c-h437/full+cover+Digtal+-+%25D8%25AD%25D9%2583%25D9%2585%25D8%25A9+%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25B3%25D9%258A%25D9%2582%25D8%25A7%25D9%2586.jpg
قبل الطوفان
https://yasser-best.blogspot.com/2020/10/blog-post_11.html
https://yasser-best.blogspot.com/
https://yasser-best.blogspot.com/
https://yasser-best.blogspot.com/2020/10/blog-post_11.html
true
5099734155506698511
UTF-8
تحميل كل الموضوعات ليس هناك أي موضوع مشاهدة الكل تابع القراءة تعليق مسح التعليق حذف الناشر الرئيسية الصفحات الموضوعات مشاهدة الكل اقرأ أيضا قسم أرشيف ابحث كل الموضوعات لم يتم إيجاد موضوع يطابق بحثك عودة إلى الرئيسية الأحد الاثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت الأحد الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت جانفي فيفري مارس أفريل ماي جوان جويلية أوت سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر جانفي فيفري مارس أفريل ماي جوان جويلية أوت سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر اللحظة قبل دقيقة $$1$$ قبل دقيقة قبل ساعة $$1$$ قبل ساعة أمس $$1$$ قبل يوم $$1$$ قبل أسبوع قبل أكثر من 5 أسابيع متابعون تابع محتوى مشروط اضغط لفك التشفير انسخ الكود ظلّل الكود تم نسخ الكود في الكيوبرد لم يتم نسخ الكود/ النص, اضغط [CTRL]+[C] (or CMD+C with Mac) للنسخ