الموسيقى تعلو بها ياقة الأيام والأماكن، فهي رسول أهواء الناس وأمزجة السماء. إنها النغمة التي تنضج على مهل؛ إذ تُبدد الحنان البارد وتضع مكا...
الموسيقى تعلو بها ياقة الأيام والأماكن، فهي رسول أهواء
الناس وأمزجة السماء.
إنها النغمة التي تنضج على مهل؛ إذ تُبدد الحنان البارد
وتضع مكانه دفئًا وحنينًا وشجرة تضم عصافير تغرد.
رقة تجعل حتى التماثيل تميل.
ولنتذكر قول أفلاطون:
«الموسيقى هي القانون الأخلاقي، تعطي الكون روحًا، وتعطي
العقل أجنحة، وتجعلك تحلق برحلة إلى الخيال، إنها تمنح الحياة لكل شيء».
مَثَل ناظمِ الكلمات كمن يسقي البستان بماء حروفه..
ومَثل الملحنِ كمن أخرج من السلة إبرة وخيطًا وحاك حلقات
من الحياة بعضها ببعض.
أما المغني فهو الناي الذي يقود الموسيقى نحو عوالم
جديدة.
أوَليست هذه هي جنة العشاق وأرائك البهجة ومقامات الطرب
الموعودة؟!
بين المتخيّل، والخرافة، والأسطورة، والواقع بما يحمله
من تخبّط وحزن وحنين وقسوة ومفاجآت وطموحات ونجاحات وانكسارات، نسج مبدعون عرب -من
شعراء وملحنين ومغنين- جُمَلهم الموسيقية السردية، وشيّدوا مدنًا غير مرئية، أقمنا
بها جميعًـا.
مدنٌ شوارعُها من العود والرقّ والدربوكة والسمسمية.
وبيوتُها من البيانو والأكورديون والجيتار والبايس والدرامز والساكسفون، وغُرَفُها
من الناي والفيولا والمزمار والقانون والأرغول والربابة.
لزمن طويل، كانت الأغنية العربية تتكلم عن ثلاثة أطراف
لا عن طرفين، الحبيبين و«الناس»، ودورهم سلبي دومًا: عُذّال، حُساد، غيورون،
مشّاؤون بنميم، وفي الخلاصة معادون للحب. وهناك حضورٌ كبير للزمن، لكن كمبدأ
للتقلب وكقوة تفريق ونسيان جارح، وبقدر أقل كمساعد على النسيان الشافي.
بدا أن الحُبّ الحزين، أو استمرار مزيج الحُبّ والحزن في
الأغنية العربية، مصدره هو هذا الحضور الرقيب الثقيل للمجتمع، ومعه الحشمة والعيب.
غير أن الزمن تغيّر، ربما من حيث الموسيقى والكلمات أكثر
من طريقة الأداء.
باتت الأغاني تقترب من التمرد، وتلامس مشاعر من يتمسكون
بخيط رفيع من وهن العمر، ويتماهى معها من يطاردون قمرًا يلهو على بيادر الطفولة،
أو يتسلقون أسوار جنة الخطيئة الأولى. أصبحت الأغنية تخاطب شبابًا نصفهم ممدد على
جدران الموج، ونصفهم الآخر ضائع من خيال الشمس.
قوس قزح جديد للأغنية الشرقية، يختلف عن مدرسة الطرب
القديمة، ويحاول تحرير الأذن من العادات اللحنية المكتسبة وإظهار ثراء الأذواق
الموسيقية وتنوعها.
في صفحات هذا الكتاب، محاولة للاقتراب من زوايا محددة
تخص الموسيقى وأساطينها في العالم العربي، وعلاقتهم بالمجتمع تأثرًا وتأثيرًا.
هكذا تطالع تفاصيل عن دور محمد عبدالوهاب في تحديث الموسيقى الشرقية، والإضافات
المدهشة التي أثرى بها بليغ حمدي عالم الموسيقى والتلحين، وألحان سيد مكاوي التي
تتسم بخصائص معينة، إضافة إلى عبقرية الملحن والمغني التونسي الهادي الجويني صاحب
أغنية «تحت الياسمينة في الليل»، والملحن متعدد المواهب منير مراد الذي سبق عصره،
والمطرب العراقي ناظم الغزالي مجدد المقام وحارس التراث، والصوت الإماراتي الساحر
حسين الجسمي، والمغني الكويتي عوض دوخي، الذي حمل لقب «كلثوم الخليج».
وحين تناولنا أصوات المطربات، فصَّلنا في الحديث عن الأغنيات
التي لم تكتملْ أو لم ترَ النور في مشروع أم كلثوم الغنائي، ورحلة فيروز «سفيرتنا
إلى النجوم» مع الغناء، ودويتوهات شادية التي تعد أبرز عناوين البهجة.
ونطالع تفاصيل موثقة عن الانتقادات التي تُوجّه إلى
العندليب عبدالحليم حافظ بأنه «موظف الثورة»، والمقصود بذلك ثورة 23 يوليو 1952.
وفن الأغنية ليس وليد لحظة متفجرة، بل هو، ككل الفنون
الأخرى، أداة من أدوات التعبير عن الذات والمجموع وتجسيد الصراع والنضال
الاجتماعي. من هذا المنطلق، نسرد أيضًا تاريخ الأغنية الوطنية والسياسية عربيًا
وتطورها منذ ظهورها في عصرنا الحديث وحتى وقتنا هذا.
وإدراكًا منا لطبيعة الأغنية السياسية أو الثورية التي ظهرت مع وصول النظام العربي
إلى طرق مسدودة سياسيًّا وثقافيًا وفنيًا، تكلمنا عن هذا السياق وارتباطه بتحولات
اجتماعية ثقافية أوسع.
من مصر،
ظهر الشيخ إمام مع رفيق دربه أحمد فؤاد نجم، في تجربة السخرية المريرة، المحرضة
على الرفض والثورة. من المغرب، جاءتنا أصوات «ناس الغيوان» و«جيل جيلالة».. لتعيد التذكير بالمنسيين
والمهمشين عبر غناء يجمع بين التصوف والحس الإنساني والهم اليومي والقضايا
القومية. ومن الجزائر، انطلقت موسيقى الراي إلى العالم لتكون نموذجـًا للتمرد
الفني الذي تعلّق به كثيرون.
ونتطرق في فصل خفيف إلى الأغاني التي كُتِبت في مديح
الفاكهة، وهي تعكس المزاج العام المصري وبيئة المجتمع نفسه. وهناك مبحثٌ عن
الأغنية الشعبية وتطورها من أحمد عدوية إلى أغاني «المهرجانات». ولا ننسى في فصلٍ
آخر أن نتحدث عن أغنيات متهمة بـ«خدش الحياء». ونغوص في التاريخ الشعبي لنحكي عن
فتوات غنوا وكانت لهم أسماؤهم في ساحة الغناء، حتى وإن كان بعضهم لا يمت للغناء
بصلة. في المقابل، نسجل هنا وقائع هزيمة المسرح الغنائي وانحساره في العقود
الأخيرة.
وربما جاز القول إن الفصل الذي يحمل عنوان «دستور
الموسيقى العربية» هو تأصيلٌ لجهدٍ كبير حدث قبل نحو قرن من الزمان بحثًا عن هوية
الموسيقى الشرقية والعربية، على يد خبراء وباحثين من العيار الثقيل، من مختلف
أقطار الأرض.
أما الفصل الأخير «نغم في حياتنا»، فهو استعادة لتاريخ
الموسيقى والغناء وأهم محطاته البارزة عبر القرن العشرين، الذي شهد تطورات وتحولات
لافتة للانتباه في مجال النغم والإيقاع والأداء.
أتمنى
لكم قراءة تجمع بين الفائدة والمتعة.
من مقدمة كتابي مقامات الروح: دليل إلى الأغنية العربية، دار خطوط
وظلال، عمان.
لكل من يستفسر عن الكتاب، أماكن توزيعه
في المكتبات التالية، مع تمنياتي بقراءة ممتعة :
القاهرة
:
مكتبة تنمية بوسط البلد، 18 ش هدى شعراوي متفرع من ش طلعت حرب،
خلف مول البستان
هاتف: 01005029128/01111139636
ردود