خدوش إضافية

عادة، تُكتَبُ المقدمات لكي تُمهِّد للكتاب، إلا أن هذه المقدمة ليست كذلك. فهي موجهة إلى القراء الذين يبحثون عما يُرضي قلقَ الروح...

عادة، تُكتَبُ المقدمات لكي تُمهِّد للكتاب، إلا أن هذه المقدمة ليست كذلك.

فهي موجهة إلى القراء الذين يبحثون عما يُرضي قلقَ الروح والفكر، ويرفضون أن تتيبس عروقُ الإبداع عند حدودٍ تقليدية مضجرة ويدركون أن القراءة -تمامـًا كما الكتابة- تجعل المرء متجليـًّا مُشرقـًا وأعمق بصيرة من غيره.

إنها ولعٌ، وليست ثرثرة قهرية. مسٌ من الجنون، أصاب واحدًا ممن وقعوا في قبضة ربات الإبداع، وليس وظيفة. الكتابة ببساطة هي حديثٌ نيابة عن الموتى، كما تقول الأديبة الكندية مارغريت أتوود، وليست تبريرًا لمتاهة الحياة.

هذه النصوص قصائد حرية ليس فيها بيتٌ ولا شطر، فقط جماليات المعنى التي تشرب نخبَ الأيام الهاربة وتجمع بين التكثيف والسرد وغواية الإيقاع وتحتفي بكورال الحياة. والقصائد أنخابٌ سريعة تدير الرؤوس، وتبتكر ذلك السطر المدهش في النهاية. في النثر هنا ظِلٌ من النظم، كما في النظم ظِلٌ من النثر، كأنهما خيطٌ وطائرة ورقية، يتبادلان التحليق والهيمنة. مزجٌ بين التأليف واللعب اللغوي، يصهر الأحلام مع الانطباعات والأفكار مع العواطف، ويترك للغة كل زمام النص.

حاولتُ هنا أن أتّبع روحي، وألا أغرق في الخِفّة التي يستعطف بها البعضُ جمهورَه، كي يصفق!

إن الكتابة براعم في يدي، وفيةٌ لفكرة النماء، حتى وإن أنبتت فاكهة مجرّحة تنفلقُ لفرط نضجها.

هي احتلالٌ ضارٌ مثير للاهتمام، تجعل صاحبها شفيفـًا صادقـًا جسورًا غير هيَّاب، فالذين يخافون أطيافهم لا يُحسِنون الكتابة. هي مرضٌ مؤقت يصيب شعور الإنسان العادي بمتعة الحياة؛ لأن الكاتب مُهمَّشٌ دائمـًا، بطريقة لا تشبه الممثل. الممثل له احتكاك بالجمهور، معهم. الكاتب ليس على احتكاكٍ دائم مع القُرَّاء. مع حلول الوقت الذي يظهر فيه العمل، يكون الكاتب قد سُجِن مرة أخرى في كتابه التالي.

في رحلة إعادة النص إلى الحياة، تبدو الكتابة أقرب إلى القيادة في الضباب، وسط أبخرة الماء الكثيفة، لا تعرف الوجهة، لكن عليك الاستمرار وحسب. إنها تحتاج قدرًا من الغموض والظلام الذي يشبه عدسة مصور فوتوغرافي، ترى النور وهي حبيسة العتمة.

غير أن الكلمات تعرف وجهتها باستبصارٍ فذ، والقارئ هو الوجهة والبوصلة في آن معـًا.

في نصوصه الإبداعية، يصنع المؤلف واقعـًا موازيـًا أو منظومة حياة كاملة، فيما الوقت يمدُّ كفوفَ النشوة، وفي هذا التورط مغامرة يتقاسمها مع شريكه في النص: القارئ.

أحد التحديات الأصيلة هنا هو تحويل عاديات الحياة إلى جدارية شعرية، وخلق نصوصٍ كعصا موسى، تلتهم كل أعمال السحرة. الحديث عن متاهتنا، السهام التي أسقطتنا عمدًا أو بغير قصد، نهاراتنا المفقودة، قلوبنا التي ترتجل الحِيَل، لكماتنا للظلال في غضب، الأشجار التي نمت ثم تهاوت في غابتنا، المعادن الصدئة التي ثقبت جدارنا، المناديل التي تبكي بدون دموع، الحبر الذي سكبناه في الغيوم، النجمة التي سقطت من دار الأفق لتنام في حِجرنا، وحياتنا التي تشبه الورق المقوّى حين تنهش النار حوافه الهشة.

نقائصنا هي معجزتنا الأهم.

التكلف؟

إنهم يقولون هذا عن كل ما يرتفع فوق المستوى العادي للعقل والروح.

قديمـًا قال الكاتب الألماني كافكا إن «الكتابة هي أن تهجر معسكر القتلة»، لكنني سرتُ مع الكتابة حتى آخر النفق؛ لأن الرحلة هي الأهم وليس ضوء النهاية.

في مغامرة الإبداع، تتمازج الأجناس الأدبية، فكلّها تحضُر، في أثناء عملية الكتابة، بشكل عفوي وتلقائي، إلى درجة يصعبُ معها تجنيس هذا الكتاب مثلًا، فالنص عابرٌ للأجناس الأدبية، وربما يكون أقرب ما يكون إلى أدب الشذرة، الذي يختط سيرورته في اتجاه المستقبل، حتى وإن كتب عن الماضي.

كتابة كأنها القنديل، الذي يضيء النيات الخفيّة، ويحاول استعادة الإمساك بالمنسيّ والهامشي والعابر للحواسّ.

وحسب ميشال بوتور في بحوثه حول الرواية الجديدة «يجب أن يُنسى دائمـًا ما كان حقيقيـًا أمس، حتى لا يبقى في أذهاننا إلا ما هو حقيقي اليوم».

نصوص الكتاب أشبه بقطعٍ مختزلة ومضغوطة ومكتفية بمعناها. الطموح هنا هو تخليد هذا المعنى، وجعله لائقـًا بالتجربة الشخصية وتجربة القارئ أيضـًا. إنّها حكمة برسم الآخرين، أي أنّها تمتلك، مثل أي حكمة أخرى، قابلية الاستخدام والتطبيق.

هنا الحكايات تلخصني، وأنا سليل اللغة التي تدخل في أنسجتي، وأنبتت في قلبي جبلًا مقدسـًا تتجلى فوقه المعجزات. أعشق سر الحرف وسحر الكلمات. والكاتب يرسم بفحمِه الحالكِ لوحة تصير معها الغرف الموحشة أكثر ألفةً، تلتئم معها الجروح وخيبات الأمل. ببساطة، يجب أن يكون الكاتب عدة كُتّاب، وأن يبحث عن أرضٍ بكرٍ وسماء جديدة، فالدوران في فلك واحد يقضي على لذة الاكتشاف وفرص التأمل.

كلُّ طاهٍ حقيقي يضع قطعة من قلبه، من عاطفته، في الطعام، يوقظ بهما، وبالنكهة، حواسّ متذوق جائع حتى يشبع. كذلك الأديب الجيّد.

وحدهم الذين يُقطِّرون أحلامهم وآلامهم في عالم الكتابة، يعتقدون أنهم منسيون، سقطوا في هوة الصمت. هناك دائمـًا من يتذكرهم. فالحروف أشجارٌ تصنع الغابة، ونجمٌ على حافة الطريق، وسماءٌ متخيلة، يعشقها كل من يمسك في يده كأس الحلم.

وإذا كانت الكتابة قنديلنا الحائر، فإن القراءة تضيئنا أكثر للآخرين، وتكشط عن أرواحنا ملحَ الضجر، بعيدًا عن الحشود التي تحتكر صكوك الاعتراف.

وبالنسبة لي، فإن الأمر أكثر بساطة مما يعتقد البعض:

قل ما شئتَ بالطريقة التي تفضل واللغة التي تريد، فإن المعنى لا يتجمّل.

إن لذة النص هي بابل السعيدة، كما يقول الفرنسي رولان بارت. وليس هناك ما هو أجمل من الارتقاء من التذوق إلى اللذة عبر نصٍ له جناحان من خيال، ووشائج خفية تجمع بين القارئ والناقد معـًا عبر فيوض الدهشة والجمال والأسى، بجرعاتٍ مكثفة من الشك في كل شيء.

أتمنى لكم قراءة تجمع بين المتعة والفائدة.

من مقدمة كتابي "خدوش إضافية"، دار زين، القاهرة، 2019.

لكل من يستفسر عن الكتاب، أماكن توزيعه في المكتبات التالية، مع تمنياتي بقراءة ممتعة :

القاهرة :

1- مكتبة ديوان

159 ش 26 يوليو، الزمالك

هاتف: 26908184

مصر الجديدة : 105 ش أبو بكر الصديق

هاتف: 27362582 - 26908184

2-مكتبة دار الشروق – ميدان طلعت حرب

هاتف: 0223930643

سيتي ستارز - مدينة نصر