أبناء البكاء

الحياة ليست كابوسـًا لتستيقظ منه، أو مسرحية بوسعك مغادرتها بعد الفصل الأول. إنها بيتُ أيامك وسكينُ موتك، الذي تشحذه الثواني على مهل...




الحياة ليست كابوسـًا لتستيقظ منه، أو مسرحية بوسعك مغادرتها بعد الفصل الأول.
إنها بيتُ أيامك وسكينُ موتك، الذي تشحذه الثواني على مهل.
وفي ثنايا هذه الثواني، ينام خلقٌ أنت منهم وهم منك، حتى وإن تباينت الرؤى واختلفت الملامح وتباعدت المسافات.
إنهم هنا، في روح روحِك، سواء أأحببتهم أم بغضتهم.
هذا كتابٌ عن بشر تركوا علامات. شخصيات عامة كان لها ضوؤها الساطع حتى صار هؤلاء من المتون الكبرى في جيلهم، أو أصدقاء ورفاق تقاسمتُ معهم شغفَ الليل وشجنه وافتضاض الأسرار والشجار العاطفي.
أعرفُهم جميعـًا، حتى من دون أن أعرف أسماءهم. الوجوه عناوين وهوية، أما الأسماء الغائبة، فهي لغرباء ودودين، يسكنون في قلبٍ يألفُ عاداته الغريبة.
أراهم يمرون تحت نافذتي، تاركين حفيف حريرهم، وتواقيع تنهداتهم وأثر حكاياتهم الشفيفة، قبل أن يذوبوا كدمعةٍ في البحر وورقةٍ في عين الخريف.
بعضهم رحل في اللحظة المناسبة. لم يتأخر دقيقة ولم يتقدم ثانية.
كيف نعرف أنها «اللحظة المناسبة»؟
يا له من سؤال شائك، لكن إجابته الصادقة قد توجعنا.
الأيام نارٌ غير مرئية لا تُمس، لكنها تجيد طمس ملامح الكثير من المنذورين للنسيان.
غير أن هناك من يأبى الرحيل. يقاسمك أيامك وأحلامك، حتى يصير تاريخك غير المدوّن.
أعلَمُ أنه لا يزعج الموتى سوى الأحياء، لكنني مضطرٌ إلى تكرار هذا الفعل المؤلم: التذكر.
والذاكرة هذا الصوان الشفاف، ماموث ينقرض، تاركـًا حفرياتٍ مذهلة تحت طبقاتٍ من جليد، لكنها، في الوقت نفسه، وصفةٌ مثالية لرتق خروق الحياة.
يبقى التذكرُ إصرارًا على البقاء على قيد الحياة، حتى وإن كان في عيوننا كل الانطفاء الممكن.. وفي المآقي ميراثٌ ثقيل من ملح الندم. والذكريات سرب جراد يخفق فوق نافذة موصدة، فإن فتحناها بكتْ على الإفريز نهايتَها المباغتة.
يحدث أحيانـًا أن يجتاح قلبي المُدمى ندمٌ ناضج. مثل شجرةٍ قطعوا ظلها، فأصير كالصمت الذي أرهقه الكلام.. لكنني اليوم أتكلم وأتألم، وأترك لكم الباب مواربــًا لكي تقرأوا أيامي وحكاياتهم.
هذه شخصياتٌ من لحمٍ ودم، ومن مدحٍ وذم، لكنها تُرمم ملامحها داخل النصوص.
أكتبُ عنهم، بعد أن امتلأت بئرُ النفس بزيتِ التجربة.
أكتبُ عنهم، وربما لهم؛ لأن لذة الحياة هي أن تُحرر الكلمات منك وأن تهدي الآخرين بوح ذاكرتك، كلما اشتهيتَ خرائط الحلم وحين تعبر قوسها المذهب. لا تتطيب الحياة إلا لمن يتهيؤون للعيش، عالمين بأن أثمن ما في أيديهم هو الزمن ووجوه الآخرين.
أكتبُ عنهم، وبالتأكيد لهم، مع أن بعضنا صرخةٌ منسيّة، يعطس الخوف عند بابنا فيُشمِّته الحزن. وبقدرٍ لا يستهان به من الأريحية والسخاء، رويتُ حكايتي، فقط لكي أخلق العالم كما أراه، وأرثيه بشكل لائق.
أكتبُ عنهم، وأنا عالقٌ بين فكرتين، أن أحكي عن كل ما يبدو للبعض تافهـًا مثل زرٍ وقع من قميص، أو جوهريـًا، كخطأ لغوي أو خوفٍ أزلي، أو أن أصمت عن تفاصيل تخص هؤلاء وأمضي بقية عمري بصوتٍ مبحوح.
ولقد اخترتُ الحقيقة كاملة!
لا بأس في أن تروي بكل التلقائية غير المحاذرة للأخطاء والخطايا، وأن تطفئ الحريق بالملابس والمعاطف القديمة، حتى وإن صرتَ متلبسـًا بالنار ومعاقبـًا باللسعات.
في زمنٍ مضى، كنت كلما اهتزتْ غرفُ القلب، أتساءل: لماذا على الزجاج دومـًا خدوش البارحة؟!
كنتُ كلما فقدتُ عزيزًا، أخذ مني بعض روحي وحفنة ذكريات، فما الذي تبقى؟
الآن أعرف الإجابات المثالية كلها.
فقد ذهبتْ الروحُ وراء المدى تاركة وراءها جسدًا قلِقـًا فر من عتبة الوقت مثل ملاكٍ خاطئ يتعطش للتوبة، لكنه يتأبط الحياة كهديةٍ عابرة.
أسطِّرُ هذه الكلمات وأهتف: أيها المنصرفون بلا ضجيج، أود أن ألفَ أحلامكم في حرير غيمة زرقاء، وحين ينسدل الليل رقيقـًا حنونـًا سأغمض عيني وأنصت برهافة إلى ألحان أفئدتكم النابضة بالأمل.
حتى الذين استخدمتُ معهم مشارط القسوة، كنت أحِبُّهم بطريقة أو بأخرى.
هذه الكتابة هي حَجَرٌ أزحتهُ عن صدري في الوقت المناسب. مثل دَينٍ يَلزمُ سداده. ليس الدافع هنا هو تصفية حسابات مع ماضٍ عشته، وإنما هي محاولة لإنقاذ حكايات وتفاصيل كثيرة من حريقٍ شب في متحف النسيان.
نحكي عنهم، ونحن لا ندري كيف سنمنع دموعنا من الاحتراق على وجوهنا. نروي حكاياتهم؛ لأن الكتابة عنهم حضرة، نتطهر لها ونهيم فيها.
أما القارئ، فهو عبر متابعتِه لقائمة الأسماء وتفاصيلها، ستنبتُ له عينٌ ثالثة ترى هؤلاء الذين تحدثت عنهم من منظورٍ مختلف. قد يلتقط بين سطور رحلة البعض سخاء العطاء والبذل، والتفاني في البناء والتشييد، وجهد الحفاظ على القيمة والجدوى، مع الحس الإنساني المرهف. وربما يجد في آخرين مثالًا صارخـًا على من تغريهم البهجة ويستهويهم الزيف، من أهل تسطيح العقل وخواء الوجدان.
وهذا حق القارئ ورأيه الذي لا ينازعه فيه أحد، مادمنا كتبنا عن الجميع بأسلوبٍ مقتصد، زاخر بالمعرفة والكشف، تاركين لهذا القارئ مهمة تشكيل رأيه النهائي بذلك الوعي المقتحم المكتشف الذي نرجوه فيه.
هنا نصوصٌ تترنح وقصائد تعرج، فيما جثتي تركض. وحدها الحروف تمشي بثقة نحو المقبرة من دون أن تترك لمن ينظمها ولو كلمة وداع!
ولأنني أتيتُ من الشعر إلى السرد وأراوح بينهما، فإنني أستحضر الغائبين الذي عبرني موتهم، وأفتقد الأحبة، وأشحذ سيف النقد، بلغةٍ تتأرجح بين الشعرية المتوهجة والسردية الوصفية الدقيقة. وإذا كان كتابي هذا يصعب تجنيسه في أي من الأقانيم المتعارف عليها في جغرافية الأدب، فإن تصنيفه يبدو أسهل عند النظر إلى مجموع النصوص المكونة له، التي تُشكل وشيجة شديدة الالتحام بعضها ببعض.
وحده الكاتب تحت ثيابه كلامٌ كثير، وعلى كتفيه تنمو الحدائق، صوته تمتمة الماء، وأنفاسه الغابة. وكأي مُسَرْنم، فإنه يحتفي بالرؤى أكثر من الوقائع.
وحده الشاعر يغفو ما بين السطور ويصطلي بحروف كلامٍ نسي القافية. ينسجُ أفكارًا تتراكضُ لاهِثَةً وتتلاقى في خيوطِ النُّصُوصِ، ورحيلِ الوقتِ.
بُراق المعنى يسابق المدى، لكنه يحاذر السقوط في أوحال الكلام الممطوط الأطراف وعبارات الطين المراوغ وفقرات الملل التي تشبه مسرحية قديمة مقررة في الأعياد، حفظها المشاهد حتى زهدها.
ذلك أن الكاتب الذي لا يُجدد في لغته وتجربته ليس سوى نزيل في سجن الحياة، يتسلل منه بحذرٍ كل ليلةٍ عبر نفق سريّ يعود به إلى زنزانة أخرى في السجن نفسه، ليكون عليه الهرب مجددًا!
إن الكتابة الجادة عناء، لكن جائزتها الكبرى قارئ واعٍ وذكي، يقرأ ويستوعب ويحمل الشعلة نيابة عن الكاتب، الذي يسكبُ روحه على الورق، بعيدًا عن مِنَصَّاتِ الخطابةِ، ومقاعِدِ السَّامعين، والمناضِدِ المُهْمَلَة، وَشظايا المجاملات السقيمة.
ولأن الحياة روائيٌ عبثي لا يكمل روايته، يهدي فصولها للريح والعدم، ويصنع منها طائرات ورقية تستقر على أسلاك الروح الشائكة.. ولأن البشر أفضل كائن يقفز فوق الحواجز والموانع، بخيالٍ جامح وذاكرة عفيّة، فقد أهديتكم هذه السطور التي تستخلص رحيق حكمتها الخاصة:
بعض الكلمات تبني جسور المودة، وبعضها الآخر تنسفها، فاختر ما تصنع.
أتمنى لكم قراءة تجمع بين الفائدة والمتعة.


من مقدمة كتابي: أبناء البكاء، دار زين، القاهرة، 2019.
لكل من يستفسر عن الكتاب، أماكن توزيعه في المكتبات التالية:
القاهرة :
1-     مكتبة ديوان 
159 ش 26 يوليو، الزمالك
هاتف: 26908184
مصر الجديدة : 105 ش أبو بكر الصديق
هاتف:  27362582 - 26908184
2-مكتبة دار الشروق – ميدان طلعت حرب
هاتف: 0223930643
سيتي ستارز - مدينة نصر
هاتف:  23912480 - 25735035- 24802544
3-روعة بوك ستور - 30 ش حسن عاصم، من ش البرازيل - الزمالك
هاتف:
01140178144
4- عمر بوك ستور - ش طلعت حرب، فوق فلفلة
هاتف: 23960047 / 01003361217
5- مكتبة ليلى - وسط البلد، بجوار الخطوط الجوية الليبية
6- مكتبة تنمية بوسط البلد، 18 ش هدى شعراوي متفرع من ش طلعت حرب، خلف مول البستان
هاتف: 01005029128/01111139636
7- مكتبة مدبولي - ميدان طلعت حرب
هاتف: 0225756421
8- مكتبة فكرة - سيتي ستارز - مدينة نصر
9- مكتبة كتب خان- المعادي
10- مكتبة الشرق الأوسط والجمل بالمطار
11- مكتبة الحسام
355 شارع 12 متفرع من شارع 9، المقطم، أمام كنتاكي ناصية مطعم روستو

المنصورة:
1-      مكتبة بوكس آند بينز: 7 ش جزيرة الورد - المشاية السفلية
هاتف: 0502242285
2-     المكتبة العصرية: المشاية السفلية، بجوار فندق مارشال الجزيرة
3-     مكتبة كلمات: أمام كلية طب الأسنان - عمارة غانم، الدور الأول علوي
4-     مكتبة الشوبري: أمام بوابة الجامعة، ش جيهان
5-     مكتبة الصحافة
الإسكندرية :
1-     مكتبة منشأة المعارف:
44 ش سعد زغلول - محطة الرمل
هاتف: 01221214657
2-     مكتبة روايات الشباب
3-     مترو سان ستيفانو مول
هاتف: 01003528603
4-     مكتبة ديوان بالإسكندرية
5-     مكتبة القلعة
15 ش علي ذو الفقار بكفر عبده
6-     مكتبة ليليت
7- الخياط بوك ستور
طنطا:
‏المكتبة القومية الحديثة: 6 شارع القاضي
هاتف: 0403349069
الشرقية /الزقازيق:
1-     الميدان
2-     مكتبة حروف
بورسعيد:
1-     كتابيكو
2-     أولاد نسيم
أسيوط:
مكتبة ألف
مكتبة ومضة
الأقصر:
مكتبة حرف - حي الفيروز ، ش عبدالله بن مسعود، أمام مديرية الأمن

·       الإمارات:
1-     مكتبة زين المعاني
2-     كينكونيا - دبي مول
3-     بوردرز
·       الكويت:
مكتبة ذات السلاسل
** يمكن طلب الكتاب من دار اكتب للنشر ليتم توصيله لكم في أي مكان
هاتف:
01147633268
01144552557
كما يمكن طلب مؤلفاتي أونلاين من:
موقع النيل والفرات الإلكتروني



ردود

Name

إعلام,20,الحكواتي,234,المحروسة,299,بشر,139,رياضة,105,سينما,11,مؤلفات ياسر ثابت,90,مروج الذهب,164,مساخر,51,وطني الأكبر,27,
ltr
item
قبل الطوفان: أبناء البكاء
أبناء البكاء
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEiYFTM6t5KRxdbmFgxeTygqpgDOQAgJ9P3RJiKC_4bxtDW5BU2WyNONEXWB72B_FsAmT2lqMVG-nFfnHyM2Uz5JMCVCKhSSGaH65UWHUeS9XNBqS1kzFVP-kTcZ9F6nRrtozzMocCQqjoVK/s640/%25D8%25A3%25D8%25A8%25D9%2586%25D8%25A7%25D8%25A1+%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25A8%25D9%2583%25D8%25A7%25D8%25A1.jpg
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEiYFTM6t5KRxdbmFgxeTygqpgDOQAgJ9P3RJiKC_4bxtDW5BU2WyNONEXWB72B_FsAmT2lqMVG-nFfnHyM2Uz5JMCVCKhSSGaH65UWHUeS9XNBqS1kzFVP-kTcZ9F6nRrtozzMocCQqjoVK/s72-c/%25D8%25A3%25D8%25A8%25D9%2586%25D8%25A7%25D8%25A1+%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25A8%25D9%2583%25D8%25A7%25D8%25A1.jpg
قبل الطوفان
https://yasser-best.blogspot.com/2019/04/blog-post_48.html
https://yasser-best.blogspot.com/
https://yasser-best.blogspot.com/
https://yasser-best.blogspot.com/2019/04/blog-post_48.html
true
5099734155506698511
UTF-8
تحميل كل الموضوعات ليس هناك أي موضوع مشاهدة الكل تابع القراءة تعليق مسح التعليق حذف الناشر الرئيسية الصفحات الموضوعات مشاهدة الكل اقرأ أيضا قسم أرشيف ابحث كل الموضوعات لم يتم إيجاد موضوع يطابق بحثك عودة إلى الرئيسية الأحد الاثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت الأحد الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت جانفي فيفري مارس أفريل ماي جوان جويلية أوت سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر جانفي فيفري مارس أفريل ماي جوان جويلية أوت سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر اللحظة قبل دقيقة $$1$$ قبل دقيقة قبل ساعة $$1$$ قبل ساعة أمس $$1$$ قبل يوم $$1$$ قبل أسبوع قبل أكثر من 5 أسابيع متابعون تابع محتوى مشروط اضغط لفك التشفير انسخ الكود ظلّل الكود تم نسخ الكود في الكيوبرد لم يتم نسخ الكود/ النص, اضغط [CTRL]+[C] (or CMD+C with Mac) للنسخ