نحتٌ في غرانيت الزمن

كجندي ينام القمرُ على بُندقِيَّتِهِ.. كحارس ليلي يشمُ اللصوصُ رائحةَ الحامضِ في جِلْدِهِ، عرفتُ معنى الأمل الجريح.   ف...








كجندي ينام القمرُ على بُندقِيَّتِهِ..
كحارس ليلي يشمُ اللصوصُ رائحةَ الحامضِ في جِلْدِهِ، عرفتُ معنى الأمل الجريح. 
في ذلك الخندق الجاف عشنا، ونزفنا دّمَ الصَّبارِ. اخترنا الكلمات بعناية، وعكفنا على تأمل البشر في أبهى تجلياتهم، وبحثنا عن التقاطعات مع الذين نحتوا درب صعودهم نحو النجاح أو النجاة.
مبكرًا، أدركتُ أن الكتابة محاولة متواصلة للإمساك بيقين مخاتل ومتلون.
ولأن فقدان الإيمان مثل فقدان الأمل: موت الرغبة في التطوير، فقد ثابرتُ بكل الدأب، ورفضت أن أصبح ذلك الخفاش المُعَلَّق في مُنْتَصَفِ المَسافة، أو أن ألقى مصير زُجاجةٍ فارِغةٍ منزعِجَة من زوال الاهتمام.
يقولون إنك الأستاذ، الأعرف بالدروب السالكة وسط ألغام هذه المهنة. ليتهم يعلمون أني دستُ على كل تلك الألغام فانفجرتْ في وجهي، وأدمتني التجربة.
أيها القاتل المأجور: لا تطفئ جهاتي. أبق سراجي الأخير، علّه يُعري الأرصفة من قطاع طرق يضاجعون العتمة المُهلكة.
البعضُ يحفر قبرًا لحروفه، ثم يدفن نفسه فيه.. لكننا لم نفعل!
وحده الألِفُ استقامة، في أبجديةٍ تتلوى وتتلون.
نعم، تراجعَ التدوين. من اعتبره موضة تركه، ومن أراده وجاهة هجره. فقط من رأوا فيه ساحة ومساحة للكتابة الحقيقية استمروا.
في الذكرى الثالثة عشرة لإنشاء مدونة «قبل الطوفان»، نبدأ محاولة ثانية للعبور، رغم صرير الأبواب التي توقظنا.
تناولنا قضايا مصرية مصيرية، مثل «تنمية أرض الفيروز.. قائمة الأولويات»، وصرخنا «لا تبيعوا الشركات الرابحة!»، وطالبنا بـ«تجديد دماء الحكومة»، ونصحنا الوزراء في «احفظوا ألسنتكم، يرحمكم الله»، قائلين إنه «لا شك أن بعض الوزراء في مصر يحتاجون مدرسين خصوصيين في مادة السياسة، خصوصـًا في جزئية «ما الذي يقال وما الذي لا يقال علنـًا».
لكن هناك دائمـًا عيونـًا لا ترى الحقيقة.
عن سد النهضة الإثيوبي، كتبنا مقالًا كاشفـًا حمل عنوان «شرب السُمّ على سبيل التجربة!»، قلنا فيه:
«قيل في «كليلة ودمنة»: ثلاثُ لا يجترئُ عليهنّ عاقل: تأجيل عمل اليوم إلى الغد، وائتمان النساء على الأسرار، وشرب السُمّ على سبيل التجربة. هذه الأمور الثلاثة في «كليلة ودمنة»، التي ترجمها ابن المقفع عن الفارسية الوسيطة، ويقال إنها من أصولٍ هندية، تقدم لنا وصفة سحرية لتجنب الفشل».
كانت نصيحتنا الذهبية لمن يهمه الأمر.. إن البلاد لا تُدار بالبلادة، والعباد لا يُساقون بالعناد.
وتحت عنوان «أنقذوا الأجور من الغلاء»، ناشدنا مؤسسات الدولة والمجلس الأعلى للأجور قائلين «دعونا نفهم أهمية إحداث التوازن بين الأجور والأسعار، لضمان الحياة الكريمة للمواطنين والتوزيع العادل لعوائد التنمية».
عُدنا إلى الموضوع لأهميته، وأشرنا في «الأجور.. اختلالات وتشوهات»، إلى أنها «دوامة، والأسعار تشتعل، ويتعين النظر للأمر بجدية لضمان الحد الأدنى اللائق بآدمية المواطن المصري واحتياجاته الأساسية».
وبعد زيادة أسعار تذاكر مترو الأنفاق بفرمان مفاجئ، من دون أن يستمع أحد لصوت العقل، كتبنا «دماغ هيئة المترو!».
و«عن الدور الاجتماعي.. و«الكلام الفارغ»، قلنا: «نحن الآن أحوج ما نكون إلى رجل الأعمال الذي يمارس دورًا مؤسسيـًا، فهذا حقٌ للمجتمع وواجبٌ على رجال الأعمال في زمننا هذا».
ولأن دموع المخادعين يمينٌ حانثة، وذريعة للتمكن من ضحاياهم السذج، فقد انتقدنا «الغش.. والذين يباركونه بالصمت».
وفي «الرقابة الإدارية.. والجزء الغاطس»، قلنا: «من الوزارات إلى المحافظات ومن الشركات القابضة إلى الهيئات، تمثل هيئة الرقابة الإدارية في تقديرنا الشوكة والسكين، في مواجهة طبق الفساد العامر».
و«حتى تكتمل الصورة»، قلنا «إن التحديات التي تواجهها مصر جمة وخطيرة، وتحتاج إلى تعدد الأصوات وكشف الحقائق وفتح المجال أمام مشاركة كل المعنيين بالعمل العام.
لقد حانت لحظة تطبيق الديمقراطية والتعددية السياسية والمحاسبة وفق أسس الكفاءة والنزاهة وحُسن الإدارة والتخطيط في مصر، وإن لم نلتقط طبيعة اللحظة غفلة أو تغافلًا؛ فالبديل مرعب».
في راقصو «الكيكي».. والشوارع المستباحة»، كتبنا قائلين: «هذا التقليد الذي يستبيح الشوارع وأمنها، يؤكد وجود فراغ وقلة في المعلومات والثقافة، ونقص في آليات الرقابة المرورية الحازمة لمن يعرضون حياتهم وحياة الآخرين للخطر، من أجل رقصة وأغنية»!
وفي «البلطجة.. والكلاب»! أكدنا أنه «ربما حان الوقت كي يكون هناك قانون ينظم اقتناء الحيوانات وتربيتها، وفي مقدمتها الكلاب، بعد أن تبين أن هناك خللاً في اتجاهين: أولهما إساءة البعض استخدام هذه الحيوانات بقصد الترهيب والترويع والبلطجة والإيذاء. والاتجاه الثاني هو ما نعرفه من إهدار لحقوق الحيوانات نفسها وتعمد إيذائها وتعذيبها بطرق مختلفة، قد تؤدي في كثير من الأحيان إلى إزهاق أرواحها».
رياضيـًا، أرّخنا نهاية «دولة الألتراس» في عام 2018، وطالبنا بالحكمة وضبط النفس في التعامل مع هذه الظاهرة وروابطها من المشجعين.
بالتفاؤل تضيء قناديل الخير؛ ولذا كتبنا في «عودة الجماهير»:
«أخيرًا، عودة الجمهور إلى مدرجات كرة القدم. هذا الخبر السار يجب تدارسه بمختلف تفاصيله لوضع الرؤى الخاصة بدخول الجماهير، إن شئنا حقـًا إنجاح مساعي السلطات المعنية لإعادة الجمهور إلى الملاعب والاستادات».
ولأن الوقاحة لا تتريث، ولا تتقن سوى لغة الطيش، فقد كان ضروريـًا التصدي لأزمة اللاعب محمد صلاح مع اتحاد كرة القدم في مصر؛ ولذا كتبنا تحت عنوان «محمد صلاح.. والإهانة الحقيقية» منتقدين تصرفات اتحاد الكرة، وقلنا بالحرف الواحد: «إن هذه التصرفات المسيئة هي الإهانة الحقيقية التي تتكرر نتيجة غياب الرشادة في تصرفات كثيرين في مواقع المسؤولية هنا وهناك».
وبمناسبة مونديال روسيا 2018، كتبنا «المونديال..وأبطال العرض»!، ثم أتبعناه بموضوع عن تاريخ مصر في نهائيات كأس العالم، تحت عنوان «المونديال.. «الثالثة ثابتة»، قبل أن نكتب عقب الخروج المهين في الدور الأول، عن «دروس «صفر المونديال».
وتحت عنوان «غارينشيا وناتشو.. التحدي»، كتبنا أن «هناك العديد من اللاعبين عانوا المرض والإعاقة، منهم من استسلم واتجه إلى اعتزال كرة القدم، وهناك آخرون تغلبوا على مرضهم أو إعاقتهم ولم يستسلموا».
يومـًا ما، سأكتب عن نصفٍ لي لا أكتمل بدونه، عن عينين حادتين كمصباحين في ليل مظلم، وعن عمر ما زالت أصابعنا تحمل بقاياه.
ذلك أن هناك توقـًا إلى اجتذاب القرّاء، يأتي مصاحبـًا لشعور بالحرج ناشئ عن كشف النفس أمام الملأ!
وكاتب هذه السطور لا يخشى على الكتابة في مصر أكثر من سقوطها في فخ السخرية ومنحدر العامية. قد يجلب الفخ مالًا والمنحدر شهرة، لكن أيـًا منهما لا يصنع أدبـًا.
هكذا جرّبنا الكتابة المتشظية، مثلما تعزل نغمة موسيقية محددة، لتشعر بها بطريقة جديدة.
كتبنا عن «فيدباك».. دمٌ أفسده الاحتقان!» عن رواية سناء عبدالعزيز «فيدباك»، و«صبي السبعينيات.. سيرة الشارلستون» لمحمود عبدالشكور،
وتطرقنا إلى «تلك اللغات الغامضة!» عن كتاب طريف لدانيال هيلر روازن يحمل عنوان «لغات غامضة»، يستكشف فيه ظاهرة غريبة لم تنل في رأيه ما تستحق من عناية، ألا وهي حرص البشر عند الحديث بلغةٍ ما إلى ابتكار لغات سرية، قد تكون جادة أو مسلية، وقد تكون ألعابـًا موجهة للأطفال وقد تكون عملًا مُعدًّا للكبار عسير الفهم عُسر اللغات الأجنبية.
ونحن لا نعرف التاريخ إلا في إطار عباراتٍ فارغة من المعنى؛ المعالم والآثار والذاكرة معان تصلح للأغاني، فيما تُولّي الدولة ظهرها للجرائم المتكررة من سرقة وإهمال وتعدٍ، وسط خراب شرحه يطول.
في الدراما المضجرة، يمطون الأحداث ويبطئون الإيقاع، لزيادة عدد الحلقات. أليست هذه حال بعض الأوطان اليوم؟!

هكذا كتبنا عن أوطان تشبه عُشَّ البلهاء. ربما كان شعورنا هو أن شيئـًا ما يتآكل في هذا الوطن، بفعل قوارض السياسة والإعلام والثقافة.

كتبنا عن «تاريخ من الأزمات التموينية» منذ اندلاع الحرب العالمية الثانية وإلى وقتنا الراهن.

في دراسة مستفيضة «الإسكندرية.. سيرة مدينة»، قلنا: «تمثل العصر الذهبي للكوزموبوليتانية في مدينة الإسكندرية في فترة العشرين سنة بين العامين 1936 و1956». ونقلنا آراء عدد من مشاهير الأجانب الذين عاشوا في عروس البحر المتوسط وكتبوا عنها في كتبهم وشهاداتهم.
في «أولاد الناس».. في زمن المماليك»، شرحنا كيف أن أبناء المماليك الذين ولدوا في مصر ولم يمسهم الرق ولم يُجلبوا إليها مع النخاسين، عُرِفوا في مصطلح ذلك العصر باسم «أولاد الناس»، وكانت مكانتهم الاجتماعية أدنى من الأمراء المماليك، فهم فئة خرجت من قلب طبقة المماليك لتصبح فئة من فئات الشعب المصري في العصر المملوكي».
من رحيق المطابع، تذوقنا فرحة صدور «أبناء البكاء» (دار زين، القاهرة 2019)، و«الأهداف لا تعتذر» (دار اكتب، القاهرة 2019)، و«مراعي الذئاب» (دار زين، القاهرة 2018)، و«يطل الخجل من حقيبتها» (دار زين، القاهرة 2018)، و«موسوعة كأس العالم: من أوروغواي 1930 إلى روسيا 2018» (دار كنوز، القاهرة 2018)، و«الملك والفرسان الثلاثة: عرب روسيا 2018» (دار كنوز، القاهرة 2018).
هكذا تستلقي وردة الطمأنينة بين صفحات كتاب؛ لتجمع بين العطر والمعرفة.
أما حاسدي المسكين، فأقول له: إن كان في ذراتِ لحمك ودمك ذرة واحدة لم يهرأها الحقد عليَّ، فاعلم إذًا أنني لا أجني من وراء الكتابة والنشر مالًا ولا جاهـًا، وأنني لا أحفل بالجوائز والأوسمة قدر اهتمامي بشهادة قارئ شغوفٍ بالمعرفة أو رأي متابعٍ كريم.
يا عشاق "الأوثان البشرية": ابتعدوا. إن صرخة الأحرار نحتٌ في غرانيت الزمن.

Name

إعلام,20,الحكواتي,244,المحروسة,304,بشر,150,رياضة,106,سينما,13,مؤلفات ياسر ثابت,103,مروج الذهب,171,مساخر,51,وطني الأكبر,28,
ltr
item
قبل الطوفان: نحتٌ في غرانيت الزمن
نحتٌ في غرانيت الزمن
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEiyDtWZdLXUC5J0WhyphenhyphenF02rOnxcirZcrvnSo6z5jsXaaYwWS4jd6bam3NaQzXsYkouvUd6JEaEvybYnCU9b_mCXHMAwJPwTSlmGqvzkCBD_Yh9bq2R5O1stePLY20Q5GVKm0Mvl7QNhNy8Ge/s640/curtain.jpg
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEiyDtWZdLXUC5J0WhyphenhyphenF02rOnxcirZcrvnSo6z5jsXaaYwWS4jd6bam3NaQzXsYkouvUd6JEaEvybYnCU9b_mCXHMAwJPwTSlmGqvzkCBD_Yh9bq2R5O1stePLY20Q5GVKm0Mvl7QNhNy8Ge/s72-c/curtain.jpg
قبل الطوفان
https://yasser-best.blogspot.com/2019/03/blog-post.html
https://yasser-best.blogspot.com/
https://yasser-best.blogspot.com/
https://yasser-best.blogspot.com/2019/03/blog-post.html
true
5099734155506698511
UTF-8
تحميل كل الموضوعات ليس هناك أي موضوع مشاهدة الكل تابع القراءة تعليق مسح التعليق حذف الناشر الرئيسية الصفحات الموضوعات مشاهدة الكل اقرأ أيضا قسم أرشيف ابحث كل الموضوعات لم يتم إيجاد موضوع يطابق بحثك عودة إلى الرئيسية الأحد الاثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت الأحد الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت جانفي فيفري مارس أفريل ماي جوان جويلية أوت سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر جانفي فيفري مارس أفريل ماي جوان جويلية أوت سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر اللحظة قبل دقيقة $$1$$ قبل دقيقة قبل ساعة $$1$$ قبل ساعة أمس $$1$$ قبل يوم $$1$$ قبل أسبوع قبل أكثر من 5 أسابيع متابعون تابع محتوى مشروط اضغط لفك التشفير انسخ الكود ظلّل الكود تم نسخ الكود في الكيوبرد لم يتم نسخ الكود/ النص, اضغط [CTRL]+[C] (or CMD+C with Mac) للنسخ