الغش.. والذين يباركونه بالصمت

من مظاهر الانفلات الأخلاقي انتشار ظاهرة الغش. ذلك أن الغش لم يعد يُثار بتاتـًا على المستوى الأخلاقي. ولا يقف الأمر عند كون صاح...




من مظاهر الانفلات الأخلاقي انتشار ظاهرة الغش.
ذلك أن الغش لم يعد يُثار بتاتـًا على المستوى الأخلاقي. ولا يقف الأمر عند كون صاحبه يعدّه "انتصارًا" و"حقـًا" من الحقوق، ووسيلة مشروعة "ينتزع" عن طريقها حقه في النجاح، المدرسي والاجتماعي، بل إن الأمر يتعدى ذلك إلى ما يجده الغشاش من تواطؤ عند زملائه، بل ربما إلى ما يلمسه من مساندة عند ذويه وأهله.
تمكنت الظاهرة، وسنّت لها طرقها ووسائل استمرارها وانتشارها، باستخدام التكنولوجيا والوسائط الحديثة لتطوير الغش وتسريب الامتحانات والإجابات، إلى جانب الطرق التقليدية.
أصبح الغش يتغذى على الفساد الاجتماعي العام، ولم يعد عملية يقترفها المتعلم في أثناء الامتحان، وداخل الفصل، بل أصبح يعني شبكة معقدة من الفاعلين الذين يعملون على "اقتناص" أسئلة الامتحان وتسريبها لإغراء الممتحنين باقتناء الأجوبة حتى قبل ولوج قاعات الامتحان.
بلغ الأمر بوزير التعليم د.طارق شوقي أن يقول: «الغش هو الذي أصبح كالماء والهواء وليس التعليم، وكل مصري يلمس الآن كيف أن المدارس خالية بينما الزحام على (السناتر) رهيب، وأن الأخيرة تحصد مكاسب تتراوح بين ٢٠ و٢٥ مليار جنيه سنويـًا».
هناك استسهالٌ للجوء إلى أساليب الغش، ربما يراه البعض وجهـًا آخر لتدهور العملية التعليمية، أو احتجاج الطلبة والدارسين على أساليب التدريس التي تُنقَل بها المعارف وربما إلى مضامين الثقافة المتناقلة ذاتها. من الجائز أن متعلمينا لم يعودوا يجدون أنفسهم في هذه الثقافة، ولعلهم لا يتعرفون فيها إلى ذواتهم، ولا يجدون فيها أجوبة عن الأسئلة الحقيقية التي تعنيهم، والتي ما يفتأ واقعهم اليومي يثيرها.
ودون الخوض في تعريفات الغش في اللغة (حيث يكون ضد النصح والنصيحة، أو مرادفـًا للغِل أو الحقد أو الخديعة أو الخيانة) والقانون (حيث يعتبر جريمة..) وعلم النفس (حيث هو حالة مرضية)، فإننا ننظر إليه سوسيولوجيـًا كظاهرة اجتماعية يحوز كل الخصائص التي تجعل منه كذلك. إننا نحدده بوصفه كل سلوك أو فعل يهدف صاحبه تحقيق أو حيازة شيء بشكل غير قانوني وغير أخلاقي (لا شرعي ولا مشروع). ولأجل ذلك قد يلجأ صاحبه إلى كل الوسائل التي تمكنه من إنجاز فعله.
حينما ننظر إلى الغش في الامتحانات التعليمية فإننا نكون بصدد فعل يقوم به التلميذ (مثل نَقلِ أو أخذ معلومات ومعطيات تتعلق بموضوع الاختبار من زميل له أو من ورقة مخبأة لديه، أو عبر تقنية حديثة هاتف وغيره، أو بمساعدة المكلف بالحراسة.. إلخ) يكون الهدف منه هو الحصول على نقطة معينة يريد تحقيقها في الامتحان، رأى أنه لا يمكن أن يصل إليها بالاعتماد على نفسه فقط، لسببٍ ما.
وطبعـًا فهذا الفعل، باعتباره غشـًا، فهو مرفوض من قبل كل القوانين والشرائع والثقافات.. كل دولة وكل مجتمع يتعاطى معه بقدر معين من الصرامة. والدول التي حققت تقدمـًا في سلم الحضارة المعاصرة تولي للتعليم أهمية عظيمة، فتتعامل مع مشكلة الغش بما يلزم من الجدية، ونجحت في تشكيل تمثل ثقافي لدى مواطنيها يجعل من الذي يمارس الغش في الامتحان كأنه أقدم على فعل عظيم غاية في الخطيرة، فتعمل كل الأطراف المتدخلة في التنشئة الاجتماعية كالأسرة والمدرسة وغيرهما على ترسيخ ذلك؛ لأنها تدرك أن أساس التقدم في الحاضر والاطمئنان على المستقبل يكمن في التكوين الجيد للخريجين من التعليم والرفع من جودتهم باستمرار (وليس هذا محط خلاف).
تكمن خطورة ممارسة الغش في التعليم عندنا، حينما لا تكون هناك إجراءات زاجرة صارمة مواكبة لتعبئة جدية شاملة تندمج في التنشئة الاجتماعية، في كونه يصبح وبالتدريج لدى التلاميذ سلوكـًا عاديـًا، فيستبطنه ويستدمجه المتعلم في بنية شخصيته، ويتصرف بناء على ذلك وكأن الغش فعل طبيعي لتحقيق النجاح. وحينما يصبح المتخرجون من المدارس ومختلف المعاهد والجامعات قد تعودوا على الغش، إما بممارسته أو مباركته أو لامبالاة تجاهه أو دون تكوين موقف مبدئي منه، ينتشر هذا ويدب في مفاصل المجتمع والدولة.
وهذا هو مكمن الخطر.

ردود

Name

إعلام,20,الحكواتي,234,المحروسة,299,بشر,139,رياضة,105,سينما,11,مؤلفات ياسر ثابت,90,مروج الذهب,164,مساخر,51,وطني الأكبر,27,
ltr
item
قبل الطوفان: الغش.. والذين يباركونه بالصمت
الغش.. والذين يباركونه بالصمت
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEiYnaKejoiqeGvBPW0hv_RTEXXuOva0T1dRTtduGS9ptDhdnnGzyH8rsRveCtJdueGzbcaeYC13RK7h8qdjpfkej6LRaG1Kx3FswcPYNaXZ9XEEPOrjuLl0hx0LMe9XOFrjXCgWc5K2YB8Y/s640/%25D9%2585%25D9%2581%25D9%2587%25D9%2588%25D9%2585_%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25BA%25D8%25B4.jpg
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEiYnaKejoiqeGvBPW0hv_RTEXXuOva0T1dRTtduGS9ptDhdnnGzyH8rsRveCtJdueGzbcaeYC13RK7h8qdjpfkej6LRaG1Kx3FswcPYNaXZ9XEEPOrjuLl0hx0LMe9XOFrjXCgWc5K2YB8Y/s72-c/%25D9%2585%25D9%2581%25D9%2587%25D9%2588%25D9%2585_%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25BA%25D8%25B4.jpg
قبل الطوفان
https://yasser-best.blogspot.com/2018/08/blog-post_15.html
https://yasser-best.blogspot.com/
https://yasser-best.blogspot.com/
https://yasser-best.blogspot.com/2018/08/blog-post_15.html
true
5099734155506698511
UTF-8
تحميل كل الموضوعات ليس هناك أي موضوع مشاهدة الكل تابع القراءة تعليق مسح التعليق حذف الناشر الرئيسية الصفحات الموضوعات مشاهدة الكل اقرأ أيضا قسم أرشيف ابحث كل الموضوعات لم يتم إيجاد موضوع يطابق بحثك عودة إلى الرئيسية الأحد الاثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت الأحد الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت جانفي فيفري مارس أفريل ماي جوان جويلية أوت سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر جانفي فيفري مارس أفريل ماي جوان جويلية أوت سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر اللحظة قبل دقيقة $$1$$ قبل دقيقة قبل ساعة $$1$$ قبل ساعة أمس $$1$$ قبل يوم $$1$$ قبل أسبوع قبل أكثر من 5 أسابيع متابعون تابع محتوى مشروط اضغط لفك التشفير انسخ الكود ظلّل الكود تم نسخ الكود في الكيوبرد لم يتم نسخ الكود/ النص, اضغط [CTRL]+[C] (or CMD+C with Mac) للنسخ