" أنا مش تبع مخلوق يا سيدنا البيه .. أنا حُر في اللي يقول ضميري عليه .. وإن كنت تُحكم جوا ملكوتك الشارع الواسع فاتح لي إيديه&q...
"أنا
مش تبع مخلوق يا سيدنا البيه..
أنا حُر في اللي
يقول ضميري عليه..
وإن كنت تُحكم
جوا ملكوتك
الشارع الواسع
فاتح لي إيديه"
كان اسمه صلاح.
منحنا البهجة، ومات
مكتئبـًا.
فتشوا في أركان الذاكرة؛
ستجدونه في كل ركن منها:
يكتب "الليلة
الكبيرة"، ويهتف "الشارع لنا"، ويتذكر "البلياتشو"،
ويهدينا عصارة رباعياته، ويلتقط لنا "صورة"، ويشكل ملامح
"زوزو"، ويحمل "البيانولا"، ويفضح الذين "بانوا"،
ويبدع في رسوماته الساخرة.
صلاح جاهين لم يغادرنا. ها
نحن نردد كلماته "الدنيا ربيع" حتى في ذكرى وفاته. هو الذي علَّمنا أن
نتغنى بالربيع حتى وهو يستأذننا في بدء خريفه.
ومن لا يتذكر أداءه المبدع
في الأدوار القليلة التي ظهر بها في السينما، من "بدير" في فيلم
"لا وقت للحب" إلى "المعلم سلطان" في "اللص والكلاب".
كان صلاح نسيج وحده.
كانت عبقرية صلاح جاهين متدفقة
إلى درجة أنه دخل في شراكة مع ثنائيين فنيين في توقيتٍ متزامن، فقد شكّل ثنائيـًا
مع سيد مكاوي، كما شكّل ثنائيـًا آخر مع
كمال الطويل. انتمى مكاوي والطويل إلى مدرستين موسيقيتين مختلفتين، ومع ذلك فإن
جاهين بذكائه وعبقريته عرف يكون الخيط الرابط بينهما، وتمكن معهما من احتلال مركز
بارز في الإرث الثقافي الدسم، رفيع المستوى، الذي نستمتع به حتى الآن.
جاهين هو صاحب
"الليلة الكبيرة"، ذلك العمل الفني الراقي الذي تم إخراجه في مسرحية
العرائس "الأراجوز". تحفة فنية راقية كتبها صلاح جاهين، وشارك من خلالها
في مباراة حماسية بين الشعر الرفيع والموسيقى الراقية، أثمرت تجسيدًا فذًا ووصفـًا
عميقـًا لأجواء الموالد والاحتفالات الشعبية[1].
حتى الأغنية الوطنية
ارتبطت باسم صلاح جاهين، فهو الذي كتب كلمات أغنيات مازالت حية في الذاكرة، مثل
"بالأحضان"، و"المسؤولية"، و"يا أهلاً بالمعارك"،
و"صورة"، وغيرها الكثير.
صلاح إذًا ثروة من اللغة
المعبرة في الفن المسرحي والاستعراضي والسينمائي، وهو الرجل الذي كان على موعد
مدهش مع التحولات الثقافية التي حملتها ثورة 23 يوليو إلى المجتمع المصري أولاً،
وسائر المجتمعات العربية.
هو الشاعر الذي عرضوا عليه
كتابة "المسحراتي" فقال إن فؤاد حداد سيكتبها أفضل منه. وهو الكاتب الذي
قدم الشاعر الغنائي سيد حجاب بوصفه موهبة المستقبل.
هو الأب الروحي الذي تبنى
أحمد زكي، ووثقت في رأيه سعاد حسني، واستضاف شريف منير في بيته.
وإذا
كان صلاح جاهين قد شعر بمسؤوليته الأدبية عن هزيمة يونيو 1967 وأدرك أن كلماته
المشحونة بالحماس التي كان يكتبها للأغنيات كانت أحد أسباب وقوع الجمهور فريسة
عالم خيالي نحن فيه الأفضل والأحسن والأقوى وما إلى ذلك من أفعال التفضيل الخادعة،
فإن صلاح الذي كتب لعبدالحليم حافظ وحده 15 أغنية "وطنية" - بدءًا من
"إحنا الشعب" فـي
24 يوليو 1956
بمناسبة تولي عبدالناصر رئاسة الجمهورية، ومرورًا بأغنيات أخرى مثل
"بالأحضان"، "صورة"، "المسؤولية"، "بستان
الاشتراكية"، "يا أهلاً بالمعارك"- قرر أن يُكفِّرَ عن هذه
المسؤولية بالغرق فـي حالة من الاكتئاب حتى يوم وفاته.
إن محمد صلاح الدين بهجت
أحمد حلمي، الشهير بـ"صلاح جاهين"، كان شديد الإيمان بثورة يوليو، ودافع
عنها باستماتة، حتى إنه قال عن عبدالناصر "مصر حترجع تاني تولدك".
وحينما عرف أن الحلم بحياةٍ كريمة راح إلى غير رجعة، أصيب بحالة اكتئاب حاد، وطوى
صفحة الكلمات الحماسية الرنانة؛ لأنه اكتشف الحقيقة بدون رتوش. بل إن نجيب محفوظ
قال لرجاء النقاش فـي اعترافات صريحة وساخنة إن صلاح جاهين انتحر، بعد أن تحطم
التمثال الذي ظل يبنيه بأشعاره وأغانيه وإحساسه للوطن.. الذي حلم به وله طويلاً[2].
يؤيد هذا الرأي كثيرون،
ممن قالوا إن صلاح جاهين، قد انتحر بابتلاع كمية هائلة من أقراص التجريتول التي لا
تُغسل من الدم إلا بمنتهى الصعوبة[3].
الطفل الكبير، الضاحك
الباكي، قتلته الهزيمة. ظل ينزف ألمـًا نحو 20 عامـًا، ثم قرر الانسحاب.
وضع قلمه وريشته وأدويته
المضادة للاكتئاب وغرق في نوم طويل.
ما أجمل هذا النائم!
ردود