هذا أنا: أنتم بقايا حكاياتٍ ورمادُ أيامٍ مرشوشة بالملح حيناً، وغارقةٍ في العسل في أحيانٍ أخرى والصفحات التالية ليست سوى شاهد ملكٍ في قضية خا...

هذا أنا: أنتم
بقايا حكاياتٍ ورمادُ أيامٍ مرشوشة بالملح حيناً، وغارقةٍ في العسل في أحيانٍ أخرى
والصفحات التالية ليست سوى شاهد ملكٍ في قضية خاسرة، وربما كانت مرافعةً في قاعة محكمةٍ غادرها المتهمون وبقي القاضي يشكو وحدته داخل زنزانةٍ تليق بمهابته
إنها قصصٌ مكتوبة عني وعنكم، سطرتُها في ارتحالاتي المُتعَبة، من القاهرة إلى الدوحة، ومن واشنطن إلى عمان، وصولاً إلى دبي.. يا لها من مُدنٍ استنزفَ العابرونَ منها الهواءَ قبلَ أن يغادروها
والقصصُ كالخمر، تتعتقُ حين تُروَى
الكلماتُ تشبهني، كأنها توائمي، وهي بصماتي على عقولٍ وأرواح عرفتُها وعرفتني. كتبتُ بعضَها وأنا أحملُ حقيبةَ سفري وأذوبُ في زحام مطاراتٍ تُعَدُ أول تمرين إنساني على الانتظار، وفي غرفٍ يدفعُ بياضُها إلى التبرمِ والضجر، وعلى مقاهٍ تمنحُك المنفى الاختياري الذي تشتهيه، وفوق أرضٍ مبتلة داكنة اللون بفعل الثلج الذائب تشي برائحة الربيع
أسميها نصوصاً إنسانية، ولكم أن تسموها ما شئتم، فلا يهمُني جنسُ الجنين ولا نوعُه، ما دام بين أيديكم وفي قلوبكم. علمتُ كلماتي أن تبوحَ عن الابتساماتِ المُعلبة، والضحكةِ التي توقظُ الأرض، ودروبِ الرغبةِ التي تهتزُ بالانفجاراتِ، والغرباءِ الذين يقتحمون حياتنا دون سابق إنذار، والوجوهِ التي تومضُ بالكبرياء، والحقدِ الذي يجعلُ البعضَ يملكون نظرةَ كلبٍ مشوه
والحكاياتُ يا أحبتي فتاةُ هوى تستمدُ ثقتها من فرطِ خطيئتها، وتغادرُ منزلها كل مساء كآلهةٍ للفضيلة..وضحيةٍ منتظرة
والكاتبُ الأصيلُ طينةٌ من تذكاراتٍ شرسة، يتحدى ويتمردُ، يرصدُ ويسجلُ حتى النهاية، وعندما تذهبُ إلى قبره لا بد أن ترى قدميه خارجتين منه. وهو أيضاً إنسانٌ مستعدٌ لأن يجرحَ قلبَه حتى يَنظُمَ قصيدةً عن جمال حبيبته
بين دفتي الكتاب تنامُ إجاباتي على "تاجات"، وهي سلسلةٌ من الأسئلة الشخصية والعامة دأبَ المدونون على تداولها وتناقلها، ليجيبَ عليها كلُ واحدٍ منهم بطريقته وأسلوبه الخاص، كاشفاً عن آرائه ومشاعره. ولأن الحدسَ أفضلُ أصدقائي، فقد اخترتُ للنشر نماذج من هذه "التاجات"، التي أجبت عليها في مدونتي "قبل الطوفان". بعضُ الإجابات على هذه الأسئلة تشبهُ أعوادَ السمسمِ الناضجةِ التي تتمايلُ بانكسارٍ في الظهيرة، وبعضُها الآخر حفنةُ ذكرياتٍ يابسة تصلحُ وقوداً لمدفأةٍ في ليالي الشتاء الطويلة. وفي الحالتين، كانت الإجاباتُ تستفيضُ بي لدرجةٍ تدفعُ إلى الجنون
تلك الشرفاتُ التي أطلُ منها على ما أريد، كانت بطاقة تعارفٍ مع مدنٍ يتذوقها الندى، وأشجارٍ تكتب شهادةَ ميلاد الأمكنة، ورجالٍ في قامةِ النخيل، ونساء يملكن أجساداً تبدو كأنها دُلِكَت من قبل صفٍ طويل من العشاق حتى أتقنت شكلَ الاستدارة وفنَ الإثارة
كانت هناك دوماً موسيقى، وعازفون ينحنون على آلاتِهم بحنانٍ ليقدموا لنا فرصةً نادرة للغواية، أو الشجاعة الكافية كي نقولَ وداعاً. والموسيقى سرُ البهاء والأحزان النبيلة والمتعة التي تتغذى على رغيفِ الجسد
يصفُ الكاتبُ الفرنسي رينيه شار الشاعرَ بأنه هو ذلك المرءُ الذي يمتلكُ الشهيةَ لقلقٍ يؤدي الانتهاءُ من استهلاكه إلى الغبطة. وبالمثلِ، يمتلكُ الكاتبُ المتمكن شهيةً متأصلة للقلق، يُعبِرُ عنها عادةً بكل اقتدار. إنه يصطادُ اللحظة بكل زخمها، ويسجلها قبل أن تفلتَ، قبل أن تخبو جذوة الاستمتاع بها
وهكذا فعلتُ
لقد علمتني الدفاترُ التي أضعها تحت إبطي أن الكتابةَ درسٌ في التنفس. نحن نكتبُ لنقاومَ الفناء الذي يطوقُ سرابَ صورنا مع أحبتنا - أو من كانوا كذلك- على جدران الذاكرة
نحن نسطرُ تلك الذكريات حتى نؤكدَ لهم ولأنفسنا أننا شفينا من أوهامنا التي جعلتنا نظنُ أننا وجدنا أخيراً من نحبُه إلى الأبد
نحن نتحررُ وننزعُ أقنعتنا فوق صفحاتٍ بيضاء أو في فضاء الإنترنت، حتى نصارعَ ونصرعَ النسيان، لأنه موتٌ سريري
الكتابة إذاً اختيار..وفعلٌ إيجابي، في وجهِ من أرادوا دفننا تحت أنقاض أكاذيبهم وخداعهم وأنانيتهم
الآن نفتحُ أعيننا جيداً لنرى..ونكتب
وأولُ شروطِ الكتابة هو أن نكونَ كما نحن، ببساطةِ البشر وأخطائهم وحقيقتهم المجردة.. فلا تجعلوا مقصَ الرقيبِ يقصُ ألسنتكم أو يحولَ حياتكم إلى شريط سينمائي حذفَ الرقيبُ منه كل اللقطات المهمة واللحظات الكاشفة
الكتابة مغامرةٌ شخصية بامتياز لكل من قررَ أن يقطفَ عناقيدَ الأمنياتِ التي تتدلى فوق خاصرةِ المدينة
والكتابةُ مواجهةٌ، ففي هذا العالمِ الفسيح لا مكانَ للهرب
وفي كل مرةٍ كنت أكتبُ فيها، كنت أتذكرُ نصيحة شهرزاد في "ألف ليلة وليلة" وهي تقولُ بعبقرية من يراوغُ الموت بقرار من شهريار:
"عليّ ألا أدعه يشرد كي لا يفكر بقتلي". فالقارىء دائماً على حق، وإن كان قاتلاً
من السهل الإقلاعُ على متن طائرةٍ والسفرُ إلى مكان لا نعرف فيه أحداً..من الصعب أن نغادرَ أنفسنا وذكرياتنا وعبقَ الروائح التي التصقت بحواسنا وأحاسيسنا. ربما لهذا السبب وجدتُ في هذه النصوص مُتنَفساً، حتى عشنا معاً مثل عاشقيَن محكومَين بتعبِ العلاقاتِ الغرامية خارج نطاق الزوجية. والذين أتيحت لهم فرصةُ متابعة مولد هذه الكلمات يعرفون جيداً أنها جزءٌ من الرحلة التي أقطعُها في هذه الحياةِ المسكونة بالمفاجآت، وقبسٌ من روحٍ مشتتة تقاومُ الاطمئنانَ الأخير
لقد قررتُ أن أترك بياضاً كثيراً في كتاباتي ..علني أضيء به
وفي البدء، كان الورقُ خالياً، وكان لابد من بعض النصوص
وبعد
حان وقت القراءة..أرجو لكم رحلة ممتعة
من مقدمة كتاب "يوميات ساحر متقاعد"، دار العين للنشر، القاهرة، 2009
أخيرا :) حمدا لله على السلامة
ReplyDeleteسعيدة جدا بعودتك للنصوص الإنسانية كما أسميتها
هذا الجزء من المقدمة يجبرنى على البحث عن الكتاب
سيدى ...إستعمالك للكلمات إستثنائي فعلا . أشكرك فقد أسعدت يومى . و تحياتى دائما
Mmm!
ReplyDeleteسلمك الله يا عزيزتي
هذه النصوص أثيرة جداً إلى نفسي، وأرجو أن تنال إعجابك وتقديرك
النصوص المنشورة بها إضافات كبيرة، أتمنى أن تكون قد أضفت عليها جمالاً وبهاء وزادتها صدقاً
سعيد بمرورك وتعليقك
الف الف مبروك يا دكتور ويارب دائما الى الامام ...و بالمناسبة فأنا احييك كالعادة على اختيارك للاغنية
ReplyDeleteآخر أيام الخريف
ReplyDeleteأشكرك يا عزيزتي على كلماتك الجميلة مثلك
سعيد بأن اختيار الأغنية أعجبك، خاصة أنك تجيدين تذوق الموسيقى
بسم الله الرحمن الرحيم
ReplyDeleteالسلام عليكم ورحمه الله وبركاته
في بيان كلماتكم وتوهان عقولنا وضياع نفوسنا و الجري وراء ما وراء الكلمه في الرمز عند بعض الكتاب تخلي الكاتب عن الحواجز بينه وبين قارئه و تجرد من كل شيئ حتي يكشف كلٌ من القارئ والكاتب نفسه للآخر
هل تري حضرتك ضروره لكشف كل عورات النفس سواء عند الكاتب او القارئ؟
اكون طموحاً جداًلو طلبت منكم مطالعه بعض خواطري عن النفس .
شكراً لكم .
فركشاوي.. ناوي
ReplyDeleteالتدوين مساحة نختار فيها أن نكون قريبين من الآخرين، وإلا لكنا اختفينا وراء أقنعة الحياة
الكتابة يا عزيزي بوحٌ.. انكشاف، واكتشاف للذات ولمن حولنا
وكل شخص يختار حجم المساحة التي يسمح بتقاسمها مع زوار مدونته
بالتأكيد سأزور مدونتك في أقرب وقت
مع الشكر
Dear Dr. yasser
ReplyDeleteCongratulations !!!
You are a kind of person who forces all people to respect him and I am really proud to be one of your readers and fans as well.
The Pearl.
The Pearl
ReplyDeleteسلمت دائماً أيتها اللؤلؤة
لا أجد كلمات لأشكرك بها على تقديرك لما أكتبه
أدام الله سعادتك
مبروك الكتاب يادكتور
ReplyDeleteمن المقدمه الرائعه
تنبأ عن كتاب رائع كعادتك دائما
تحياتى
أبو أحمد
ReplyDeleteالله يبارك فيك يا د. مجدي
رأيك يهمني، فأنت صديق عزيز وقارىء من طراز خاص
أتمنى أن يكون في كل ما أكتبه فائدة وإضافة، وأرجو أن يسهم هذا الكتاب في الجمع بين متعة المعرفة وتذوق الكلمات
شهادة اعتز بها من مثقف كبير مثل حضرتك يا دكتور...وفى انتظار المزيد من ابداعات قلمك الرشيق
ReplyDeleteآخر أيام الخريف
ReplyDeleteكل الشكر والتقدير لك، وأتمنى أن أكون دائماً عند حسن الظن بي
عزيزي / د. ياسر
ReplyDeleteفي هذا العالمِ الفسيح لا مكانَ للهرب ؟ أحقاً ما تقول ؟ أو قد أحيط بنا فعلاً إلى هذا الحد ؟ إن صحت مقولتك التي أحسبها فلسفية بإمتياز أكثر من أي شيء آخر فإن هذا معناه أن خطة هروبي الكبير والمرتقبة قد أصبحت على المحك ، على كل حال في إنتظار الفصول القادمة ، وشكرا لك لا على إبداعاتك فهي قدرك ، ولا على حسن تواصلك مع الآخرين فتلك من شيمك كما عهدتها ، ولكن الشكر كل الشكر على أنك أنك إنسان جميل في عالم ضيق حسبته فسيحاً .
أبو البنات
ReplyDeleteكل الشكر والتقدير لك يا صديقي الجميل على كلماتك الرقيقة ومودتك الصادقة
العالم صغير جداً، مهما بدا متسعاً
كأن العالم وناسه الذين نعرفهم ويعرفوننا، قدرنا الذي لا مفر منه
"يوميات ساحر متقاعد" يضم عدداً من النصوص الإنسانية التي كتبتها في هذه المدونة ولكن مع إضافات كبيرة وتوسع في النصوص، مع الاحتفاظ بروح وجوهر كل نص
أتمنى أن ينال الكتاب إعجاب من يهوى قراءة مثل هذه النصوص التي تلتقط التفاصيل، وتحكي مثل نهر يتدفق عن مشاعرناوانتصاراتنا وانكساراتنا بلا رتوش