هذا هو التاريخ: نحن بلا رتوش وتاريخنا القريب هو أصعب تحدٍ بالنسبة لأي مهتم بالرصد والتحليل، فالأحداث تتلاحق ونحن نلهث وراءها، والأزمات تقع و...
هذا هو التاريخ: نحن بلا رتوش
وتاريخنا القريب هو أصعب تحدٍ بالنسبة لأي مهتم بالرصد والتحليل، فالأحداث تتلاحق ونحن نلهث وراءها، والأزمات تقع ونحن نحاول احتواءها، والأشخاص يظهرون على الساحة ثم يختفون ونحن نسعى إلى فهم أسباب الظهور ودواعي الاختفاء. وفـي هذا كله، تتشكل طينة التاريخ، وتصبح مهمتنا الأصعب هي استيعاب الأحداث وأحوال العباد والبلاد، بعيدًا عن صخب البعض وزعيق البعض الآخر، ممن يقودون حملات تعيد تغليف المبررات العطنة التي تهز الثقة وتربك حسابات المصريين فـي حاضرهم ومستقبلهم
والكتاب الذي بين أيدينا، يجتهد فـي تأمل الظواهر المختلفة من قاع المجتمع إلى قمته، فلا يغفل حكايات الوزراء واختيارهم، ولا يهمل رصد وتحليل جرائم شريحة انحرفت من المدرسين والأطباء، وهم فـي النهاية حالات فردية لا تمثل الكثرة الغالبة ممن يؤدون رسالتهم السامية بتفان وإتقان.. أو هكذا نأمل
ولأنه ليس هناك ما هو أبلغ دلالة من حكاية تُروى بشكل جيد، فقد آثرنا ألا يكون الكلام مُرسَلا، وعززنا ما نقول بقبس من حكايات موثقة ومواقف منشورة فـي الصحف والدوريات والكتب والمراجع، حتى نعرف أصل ما جرى وحقيقة ما يجري
وفـي بلد تبدو إرهاصات التغيير فيه موجودة، لكن اللحظة غير معلومة، فإن التحليل المتأني والاستقراء المتعمق لعدد من القضايا والظواهر المختلفة، مع العودة إلى التاريخ القريب، يمكن أن يلقي مزيدًا من الضوء على ما استغلق علينا وحار كثيرون فـي فهمه بشأن حاضر مصر ومستقبلها
نعم، المستقبل، الذي يبدأ الآن وليس غدًا
وبقدر ثراء مصر شعبًا ووطنًا، بقدر ما تبدو حكايات هذا البلد درسًا فـي التناقضات التي يعجب لها الآخرون. فمن انكسار غير مبرر واستسلام غامض، إلى انتصار مدوٍ وتفوق على الذات، ومن يأس ضارب فـي الأعماق، إلى تفاؤل مدهش وإرادة يعجب لها البشر
هكذا يصنع المصريون "نظامهم" الخاص الذي يصعب التنبؤ به، كأن هذا الشعب الفريد فـي تاريخه والوطن الاستثنائي فـي جغرافيته، حالة لها خصائصها وسماتها وعلاماتها الفارقة
ونحن نؤمن بمقولة العالم المصري الكبير د. جمال حمدان التي ترى أن "ما كان أبوه التاريخ وأمه الجغرافيا، فهو من صنع الطبيعة وصلبها"، مثلما نثق برأيه القائل "إن مصر اليوم إما القوة أو الانقراض، إما القوة وإما الموت، إن لم تحقق مصر محاولة قوة عظمى تسود بها المنطقة، فسوف يتداعى عليها الجميع يومًا ما كالـ "قصعة".. أعداء وأشقاء وأصدقاء"
ولذا، فإن طريق القوة يبدأ بالمعرفة، وتحديدًا معرفة التاريخ واستيعاب الجغرافيا، وهو ينهض بالعلم والإدارة والحرية المسؤولة، ويتعزز بالديمقراطية والنزاهة ومكافحة الفساد
والثابت أن الفساد لا يجعل لجهود التنمية أثرًا ملموسًا، ويخلق بيئة غير آمنة للمواطن، ويهدر كرامته، ويضعف من ولائه للوطن، خصوصًا ذلك النوع الذي يحتمي بالسلطة والنفوذ، لينتقل من صورته المستترة إلى أخرى علنية. وربما جاز لنا أن نحذر من شيوع الإهمال والفساد الإداري وانتشار الرشوة، الأمر الذي أدى فـي عام 2009 وحده إلى إفراز الجهاز الحكومي نحو 70 ألف قضية انحراف ومخالفات مالية، وكذا جرائم جنائية تصل إلى 10 آلاف قضية منها 1300 قضية اختلاس للمال العام، و5 آلاف قضية إهمال جسيم، وأخيرًا 3 آلاف قضية رشوة
إنها الأرقام المؤلمة والحقائق الصادمة
وحين نتكلم عن أوجه الإخفاق والتقصير فـي إدارة الأزمات والكوارث، فإنما نحاول استقاء الدروس والعبر، حتى لا تتكرر الوقائع المؤلمة ويسقط المزيد من الضحايا، ونغرق كوطن فـي دوامة الأحزان. ولأن الإعلام فـي مصر أصبح طرفًا فـي قضايا ساخنة، فقد ارتأينا أن نأخذ بطرف من تلك القضايا لنقدم نموذجًا مثيرًا للاشتباك الذي حدث ذات يوم غير بعيد بين صحيفة وقعت فـي المحظور، ومجتمع استدرج فـي لحظة احتقان وفورة غضب إلى خنادق الطائفية
ومع علمنا بأن هناك من يفضل الاسترخاء على مواجهة المشكلات، ومن يروج للسخرية على حساب البحث الجاد، بدعوى أن الناس أصبحوا بحاجة ملحة لأن يفرحوا، خصوصًا بعدما تكاثرت همومهم وعزّت ابتساماتهم، فإننا نرى أن العقل الممتلئ بالأفكار أفضل من الفم الفارغ إلا من النكات. ولهذا، كان ضروريًا أن نعرف، على الأقل حتى نعرف متى نضحك.. ومتى نبكي
ولأننا نرى أن أول العلاج هو المواجهة مع النفس والوقائع، فقد عمدنا إلى التوثيق حتى لا نقع فـي فخ السرد العام الذي لا يقدم ولا يؤخر. إن كل حرف فـي هذا الكتاب يسعى إلى استنهاض الأمة، وينبه إلى العطب الذي أصاب كيان الجماعة المصرية، ويعمل على رسم معالم طريق الإصلاح، ويقرع أجراس الوعي والمعرفة بما يهدد كيان الجماعة المصرية من مخاطر؛ لأنه لا سبيل لنا للخلاص إلا بحسن الفهم ودقة التخطيط وإخلاص العمل من أجل بناء الدولة المدنية الحديثة.. والاستعداد لدفع استحقاقاتها
لتكن قراءة الكتاب إذًا هي نقطة بداية على طريق الوعي بالحاضر وصناعة المستقبل
أتمنى لكم قراءة ممتعة
من مقدمة كتاب "جرائم بالحبر السري"، مركز الحضارة العربية، القاهرة، 2010
الف مبروك يادكتور
ReplyDeleteنهنئ أنفسنا بالكتاب الجديد ونشوفك قريب في القاهرة
Bella
ReplyDeleteسلمت يا صديقتي، وأشكرك على تهنئتك الرقيقة والجميلة
تأكدي أنني حريص على لقائك وباقي الأصدقاء كلما سمحت لي الظروف بالوجود في القاهرة
مودتي الدائمة
دكتور ياسر
ReplyDeleteأنت فعلاً كاتب من الطراز الرفيع
و باحث عز وجوده في هذه الأيام
أتمنى لك التوفيق ليس فقط لأنك موهبة رائعة
و لكن لطمعي في كتب أكثر و قراءات أجمل
فهذا هو طمع القارىء النهم لكتابات المبدعين
تمنياتي لك بالتوفيق و أن تجد التقدير المناسب لجميل ما تكتب
محمد حسن
مصري بفنلندا
مبروك يا دكتور، يا رب كل شهر كتاب
ReplyDeleteمش محتاجين حبر سري
ReplyDeletefarmaseutti
ReplyDeleteسعيد جدا برأيك وتقديرك، وأتمنى يا عزيزي محمد أن أكون دائما عند حسن ظنك بي
أعرف أنك قارىء مواظب لهذه المدونة منذ فترة طويلة، وأعتز بك صديقا وقارئا
مودتي
محمد ربيع
ReplyDeleteأشكرك يا صديقي، وأتمنى أن تحقق روايتك الأولى النجاح الأدبي والنقدي الذي تستحقه
مع خالص التقدير
t3ban
ReplyDeleteيتناول الكتاب حكايات عن سوء التقدير والاختيار، ويقدم نماذج من أخطاء وخطايا أصحاب مهن عظيمة، لينبه إلى أن الخطر وصل إلى أهم خدمتين للمواطن: الصحة والتعليم
وفي هذا السياق، يمكن أن تبدو تلك الجرائم كأنها مكتوبة أو مرتكبة بالحبر السري، لكنها معروفة لكل من لا يغمض عينيه عن الحقيقة
ألف مبروك يا دكتور :)
ReplyDeleteمهندس مصري
ReplyDeleteكل الشكر والتقدير لك على تهنئتك الرقيقة
مودتي وتقديري
مبروك يادكتور
ReplyDeleteوياريت بقى نشوفك قريب
تحياتى للصديق العزيز
أبو أحمد
ReplyDeleteشكرا جزيلا لك يا د. مجدي، وبالتأكيد إن شاء الله سأتواصل معك في أقرب زيارة لي إلى مصر
مع خالص المودة
عرفت عن مدونتك القيمه من أبراهيم عيسي ... بس واضح أنك كاتب راقي ومبروك ع الكتاب.
ReplyDeleteأفروديت
ReplyDeleteأشكرك يا عزيزتي وأشكر الصديق إبراهيم عيسى الذي أتاح فرصة التعارف بيننا
أتمنى أن أكون عند حسن ظنك بي وبكتاباتي دائما
الله يا د ياسر
ReplyDeleteانا اشتقت لهذا الكتاب
ان شاء الله على قمة قائمة غذاء الروح لهذا العام ان شاء الله
تمنياتى بدوام التوفيق
أحمد عدنان
أحمد عدنان
ReplyDeleteشكرا لك يا صديقي على اهتمامك الجميل بالكتاب
أتمنى أن تجد فيه المعلومات التي تود قراءتها والتاريخ الذي يحاول البعض إخفاءه أو إغفاله
thanks
ReplyDeleteالأديب الكبير الدكتور ياسر
ReplyDeleteتهنئه حاره بالكتاب الجديد الذى يسجل التاريخ الحقيقى لبلدنا دون تزييف بأسلوب راق فيه صدق وأمانة السرد حتى لاتضيغ الحقيقه كما حاول ضباط انقلاب 23 يوليو طمس التاريخ وكتابته من وجهة نظرهم
المكتبه العربيه متعطشه لهذه الكتب التى تحظى بتقدير الجيل الحالى الذى عايش بعض أحداثه وينير الطريق أمام الأجيال القادمه
ألف مبروك وفى امنظار القادم
عبدالهادى كامل
عبدالهادي كامل
ReplyDeleteتحياتي لك أيها الصديق الكبير الرائع
أشكرك على مديحك الذي أتمنى أن أستحقه، وسعادتي كبيرة برأيك القيّم
أتطلع إلى لقاءاتنا وحواراتنا الممتعة عندما أزور القاهرة إن شاء الله
لست من هواة الأمم والأوطان
ReplyDeleteلكن كل ماتكتب اجد له جاذبيه في نفسي
جاري البحث عن الكتاب
اتمنى دوام الصحة عليك أستاذي
Besh
ReplyDeleteشكرا لك يا عزيزتي على اهتمامك بمتابعة ما أكتبه
إن أردت كتابا معينا ولم تجديه، أرجو مراسلتي على بريدي الإلكتروني، ربما أتمكن من توصيله إلى عنوانك
مودتي دائما